لن يكون في مقدور التاريخ المدوّن عن أيّ أمّة من الأمم، في أي مكان وزمان، أن يظل في مأمن من النقد المحاور لصياغة أحداثه، والباحث عن أقصى درجات الصحة فيما هو مسطور ومدوّن، طالما ظلت هذه الصياغة جهدًا بشريًّا يبرز فيها رأي الكاتب أو المؤرخ في ثنايا السطور مهما تسلّح بالموضوعية، وجنح إلى الحياد، فالتاريخ ليست معادلات رياضية غير قابلة للمجادلة والمحاورة، إنما هو أحداث تثبت برؤية من يكتبها، وتبلغ فيها درجات الصحة مكانًا يقرب من “الثقة” عند الإجماع عليها، وذلك من الندرة بمكان.. وهذا هذا الإجماع إن توافر؛ فإنّه لا بد أن يستبطن قراءات مختلفة للحدث؛ تتفاوت فيه القراءات بحسب النظر في الدوافع والمسببات، ليأتي من ثمَّ الاختلاف، والقراءات المتعددة والمختلفة بتعدد زوايا النظر عند كلّ من يتصدّى لكتابة أو نقد التاريخ.. ولئن كان التاريخ على هذه المكانة من “التأرجح” بين طرفي معادلة الأخبار؛ الصحة والنفي، فإنّ الاتكاء عليه في الأعمال الروائيّة يتطلّب جهدًا كبيرًا من الروائي، للخلوص بالأحداث من مصدرها “الخام” ليحيلها بين يديه إلى “قراءة” جديدة في كراسة التاريخ، يبرز فيها خياله المجنّح، فإذا الأحداث والشخوص كأنّها تاريخ موازٍ لعالم متخيل، يقرب من الحقيقة حين يتكئ على الأحداث المدونة المثبتة، ويبعد عنها حين يتأمل الشخوص المبتدعة المبتكرة من خيال الكاتب.. شخصيات فيها من سمات الشخوص الحقيقة بعضًا من لمحات، وفيها من متخيل الروائي الشيء الكثير، فإنْ أحكم المبدع هذه المعادلة جيدًا، فبوسعه أن يقرأ التاريخ برؤيته، مُحمّلًا تبعات ذلك إلى شخوصه.. وليحذر من الوقوع في أسر الاقتراب كثيرًا من الشخصيات كما هي في كراسة التاريخ، واستدعائها كما هي عليه لإقحامها في روايته، فإنّه عندئذٍ لن يسلم من الرمي بسهام الاتهام ب “تزوير” التاريخ، وسيدخل المُتهمين له في جوف “نياته”، وتصبح الرواية من ثمّ “كتاب تاريخ” يتجادل المتجادلون في حقيقة ما ورد فيه، وليست عملًا إبداعيًّا محله أن يظلّ مسرحًا لقراءات نقدية حول الإجادة في حبكته، ورصانة صياغته، وما إلى ذلك ممّا يتصل بأدوات نقد العمل الروائي.. عنّ لي هذا الخاطر وأنا أقف عند غلاف رواية “مقام حجاز” للأديب الراحل محمّد صادق دياب، فالغلاف الأمامي تقاسمه لونان على أرضيته؛ “أصفر” واهن تشاغبه صورة لمبنى أثري، ولون متدرج في “الزرقة” من أعلى إلى أسفل بما يحيلك إلى البحر، ثم اسم الرواية “مقام حجاز” رافعًا على الألف في كلمة “مقام” دائرة تخرج من جوفها حروف موسيقية، في دالة بصرية مباشرة لمعنى “المقام” في عالم الموسيقى والغناء.. وفي الغلاف الخلفي ما يشير إلى أن مسرح الرواية “جدة”، وعلى هذا تكتمل صورة الغلاف الموزّع بين يابسة وبحر.. ولا يتركك “دياب” نهب ظنونك في تخيّل مسرح روايته، حيث يقدّم لك ذلك قبل الشروع في فصول روايته، انظر قوله: [أنا الأنثى، على أرضي هبطت حواء من السماء، فكنت مسرحًا لحياتها، وحضنًا لرفاتها، أنا جدة بكل حركات الجيم، إذا فتحته كنت جَدّة المدن والناس، وإذا كسرته كنت حداثة الحياة، وإذا ضممته كنت جارة البحر؛ على هضابي توالت كتائب المظلومين عبر التاريخ أمثال: جميل الجدّي، عبدالكريم البرزنجي، عبدالله المحتسب، وغيرهم. هلك الظالمون، وظل المظلومون أحياء بيننا، ترمّدت عظام القتلة، ونعمت أرواح الضحايا بالوجود، والمدن كائنات تصمت، ولكنها لا تنسى، وعلى هذه الصفحات بعض ما فاض من إناء الغليان... التوقيع جدة].. “على هذه الصفحات بعض ما فاض من إناء الغليان...” هكذا يهيئك “دياب” لرحلة روائية سيكون فيها كثيرون من المظلومين، ودماء غزيرة، ومواقف مشهودة.. مسرحها جدة، ومداها الزمني يمتد إلى خمسة قرون إلا عامين، إن شئت الدقة فالزمن يمتد من العام 1513م إلى العام 2011م، لتبرز في خاطرك خاطرة مدهشة، كيف لرواية من 140 صفحة قطعها متوسط أن تعبر هذا المدى الزمني الشاسع، وستجد الدكتور جابر عصفور بجوارك يهمس في أذنك: “أتصوّر أنّ المشكلة الأولى التي يواجهها كاتب الرواية التاريخية هي مشكلة اختيار اللحظة الزمنية التي يريد أن يجعلها موضوعًا لروايته. بداهة، إنّه يختار اللحظة الدالة التي يمكن أن تتولّد عنها، في عملية الإبداع الروائي، موازيات رمزية متعددة الدلالة والإشارة والمعاني..”.. نعم؛ [بداهة، إنّه يختار اللحظة الدالة التي يمكن أن تتولّد عنها، في عملية الإبداع الروائي، موازيات رمزية متعددة الدلالة والإشارة والمعاني..]، بهذا المعنى تجد المخرج، وتقف منذ السطور الأولى في الرواية، حيث يرسم لك “دياب” صورة لمدينة جدة في العام 1513م، عام بناء سورها.. هذا السور الذي كان فاتحة “المأساة” وبوابة “الخلاص”.. ستقرأ في السطور الأولى وصفًا شاعريًّا لمدينة جدة، اللغة مغسولة من أوضار القاموس في اعتياده، مرتديًا حللًا من إشارات وومضات رشيقات تتقافز جزلى بين السطور راسمة “جدة” كأبهى ما يكون الرسم، أنظره يقول: [فهذه الأنثى تعوّدت إذا ما انطفأ النهار، وتثاءبت النوارس على صواري المراكب الراسية أن تدزون أوتار قلبها على مقام العشق، وتستوي على الشاطئ جنية حسناء تغازل البحارة والغرباء وعابري السبيل، وتنشر ضفائرها فنارًا فترحل صوبها أشواق المواويل، وأحلام النواخذة..” في هذا المسرح المعد تطل “سلمى” وهي بوصف الكاتب “ثمرة من ثمار المدينة الناضجة”، ثم “جميل” الذي يغني حبه لسلمى “ابنة الجيران” على أوتار العود ب “مقام الحجاز”.. ويعود “دياب” إلى “سلمى” محيلًا إليها في سلسلتها النسبية المتوارثة إلى “دحمان” أحد أساطين الغناء في العصر العبّاسي، المهاجر من بغداد إلى جدة، وقد تنازل عن الغناء إلى الأذان فيها، ليظهر “دحمان” اسمًا منتقلًا في هذه السلالة ليصل إلى عم “سلمى” بصورة موزعة بين معاقر للخمر وصاحب كرامات، مثير للجدل، إنه بوصف “دياب” [شخصية تتمرد على التصنيف، حاض حلو، نور مسكون بالعتمة، موّال عذب يحرق حنجرة المغني..]، اتخذ مكانه في “قوز الهملة” بعد وفاة زوجته، وصادف “مرجانة” التي أنست له من دون الناس جميعًا الذي يقصدونها للمتعة، وصدّق رواية اختطافها من قريتها في الضفة الأخرى من البحر لتظل سلعة في سوق النخاسة، حتى وجدت حريتها في “قوز الهملة”.. نهج “دياب” بعد هذا الفصل أن يقدم في صدارة أي فصل مجتزأ تاريخيًّا من أحد المصادر يبني عليه من ثم رؤيته الروائية، مستهلًا بمجتزأ من مخطوطة “الجواهر المعدة في فضائل جدة” لأحمد بن محمّد الحضراوي ونصه: [كان - حسين الكردي - ظلومًا غشومًا يسفك الدماء، ولا يرحم من في الأرض ليرحمه من في السماء، وكان ينصب أعوادًا للصلب والشنق و“الشنكلة”، وأقام جلادين للقتل والتسويط والضرب والبهدلة، فأي مسكين وقع في يده قتله بأدنى سبب، وكان أكولًا يستوفي الخروف وحده مع أرغفة عديدة]. هكذا يستلم “دياب” شخصية حسين الكردي مبعوث السلطان قنصوة الغوري، مصوّرًا ما كان يرتكبه من فظائع، ليكون دحمان في سياق سردي أحد ضحاياه؛ حيث نالته سياط جلادي “حسين” حتى تفجّر الدم من مؤخرته وظهره، وشاهد الناس الذين أنهضوه “بقعة كبيرة من الماء الآسن تسيل من تحته، فانطلقت صياح الصغار تردد: أبو بلّة غرّق الحلّة.”.. وحين كان مبعوث السلطان يستنهض أهالي جدة لحماية مدينتهم من هجوم البرتغاليين الوشيك، ببناء سور، عاجله “دحمان” بطعنة تجنبها الأمير، وكانت سيوف جنوده تعالج رأس دحمان فتدحرج رأسه بين الأقدام أمام ناظري ابنه “محسن”.. ولم يجرؤ أحد على لملمة أشلائه، فترك لتنهشه الغربان والهوام والحشرات، فنبتت في مكان جسته بعد أيام سدرة أطلق عليها الناس “سدرة مقتل دحمان” ظلت مرجانة تستظل بها ولا تغادرها إلا إذا غربت الشمس.. هذى أولى صور المأساة، سيرتحل معك دحمان، ومرجانة وحسن، وسلمى في أزمان مختلفة، فامض في الرواية، واقرأ ما دار في أمر السور وما صحبه من أحداث؛ فالراوي “دياب” يقدّم لك شهادة أخرى موثقة من كتاب “تاريخ مكة” لأحمد السباعي تقول: [كان الكردي شديد الوطأة، فقد فرض على عامة الأهالي والتجار حمل الطين والحجر حتى أتم بناء السور في أقل من عام، وبلغ من قسوته أن أحد البنائين تأخر عن موعده فبنى عليه السور، وتركه يموت في جوفه]. هنا يطل “محسن” بن “دحمان” مشاركًا في السور، منطويًا على رغبة في الانتقام من “الكردي”، ويظهر “جميل” في سياق السرد، ليكون هو الضحية الذي بني عليه السور حيًّا جرّاء تأخره، فإذا الذي أورده “السباعي” بسياق التعميم “أحد البنائين”، إذا هو برؤية “دياب” شخص بلحم ودم يحمل اسم “جميل”.. وضع الكردي أنضجت روح الثورة في قلوب مناوئه، لتظهر شخصيات عديدة من بينها فالح مستور، وفرحان الجبالي، وداود حجازي، ومفتاح المغاربي، يرسمون ويخططون طرقًا للخلاص.. لكن عيون “الكردي” كانت لهم بالمرصاد، فقبض عليهم وسيقوا أسرى إلى مصر ليتولى السلطان سجنهم هناك.. ستمضي في قراءة الرواية ستعرف أي طريق سلك ابن دحمان لينال ثأر أبيه من الكردي، وكيف كانت عودته من القاهرة، سيقدّم لك المؤلف إضاءة أخرى في مفتتح العام 1517م من “موسوعة تاريخ مدينة جدة” يقول فيها المؤرخ عبدالقدّوس الأنصاري: [وكان من سوء حظ هذا الحاكم - حسين الكردي - أن أُغرق في بحر جدة بأمر صدر من السلطان سليم، أول سلاطين العثمانيين الذين حكموا الحجاز، ولا بدّ أن هذا الصنيع معه كان نتيجة شكايات صارخة من أسر أو أبناء بعض من عنفهم أو ظلمهم حسين الكردي من أهل جدة إبان ولايته عليها”.. غير أن “دياب” يرسم صورة هلاك الكردي على يد الثوار ومن بينهم ابن دحمان على غير ما ورد، فقد قبض عليه الثوّار بعد أن اختبأ عنهم، فجعلوه طعامًا لسمك القرش، بعد سلسلة من الأحداث والحوارات والتحديات بينهما، ليعود ابن دحمان إلى سلمى فيجدها باسمة الثغر، وقد أراحت كاهلها من ثقل طلب الثأر. ويقفز “دياب” في مساحة الزمن بخطوة مقدارها “213” عامًا منتقلًا إلى الفصل الثاني معنونًا إياه ب “مقتل المظلوم.. جُدة عام 1725م”.. موردًا في فاتحته ما ساقه المؤرخ عبدالقدوس الأنصاري في “موسوعة تاريخ جدة”، حول مقتل المظلوم بقوله: [وكان قتله “عبدالكريم البرزنجي” بهذه الصفة الشنيعة، ثم إلقاؤه في السوق، مثار حنق وسخط من أهالي جدة على الحكومة العثمانية فسمّوه المظلوم]. ويسرد المؤلف صورة لمآل عبدالكريم البرزنجي، وقد لجأ إلى جدة بعد الوشاية به من الأغوات، وكيف أن دمه بتخيل الناس أو حقيقة قد سال مدونًا كلمة “مظلوم”.. خطوة الفصل الثالث اتسعت “133” عامًا وهو يتناول مذبحة الدبلوماسيين في جدة في العام 1858م ويرسم المؤلف عبر شخوصه صورة لما حدث من مقتل الدبلوماسي البريطاني ونظيره الفرنسي وزوجته، وخلق من هذا الصنف كثير بلغوا في جملتهم 21 قتيلًا، فسيق إلى الإعدام جرّاء ذلك عبدالله سمكري، وسليمان قهوجي، وسليم باكردس، وصالح مراد، وعبدالعزيز غوّاص، وفرج حداد، ومحمد بيومي، ومبارك قارورة، وأمان أفندي، وعبدالخير باخريبة، ومحمد نوار، وبلال عتيق، وفضل الله أبو ناب. ثم ينتقل الراوي بأحداثه للعام 1916م في جدة، وقد تحلق الصغار حول جدتهم “سلمى” وهي تحكي لهم ما كان من أمر سيرة هذا النضال ملخصة ذلك لأحفادها بقولها: “كان يا مكان في قديم الزمان، رجل اسمه دحمان، رجل ليس ككل الرجال، ينصر المظلوم، وينجد الجار، وتعرفه البراري والبحار، إذا مشى فاح عبق الطهارة من قلبه، وأريج الطيب من ثيابه...]، وهكذا تمضي في سردها، فإذا ما أكملته أضجعت على جنبها الأيمن، وطال به الوقت فإذا هي قد فارقت الحياة.. لو أن الراوي “دياب” قد أنهى الرواية هنا لكان ذلك خليقًا بأن يكون خاتمة تفتح سيرة الألم، وتقرأ وقائع التاريخ على مشهد روائي، ولكنه انتقل بنا سريعًا على العام 2011م من عمر جدة، مستدعيًا أحفاد “ابن دحمان” في مشهد يربط بين الماضي والحاضر، فإذا الصورة على غير ما هي عليه، مطوّفًا بروح “ابن دحمان” في المشهد، مستعرضًا مآسي أحفاده مع مكابدات الحياة العصرية، وما شهدته مدينة جدة من مآسٍ في حاضرها ومن بينها السيول التي اجتاحتها، وكأنما أراد بذلك أن يوثق لصورة من المأساة المستمرة التي تتناسل بصور مختلفة. غير أن المدهش في هذه الرواية الممتعة أن المؤلف آثر أن يقدم في خاتمتها احتجاجات من أبطالها على ما جاء فيها، وكأني به يريد أن يظل الباب مفتوحًا لنقد التاريخ وصياغته، فثمة رسالة من حسين الكردي يلوم فيها الراوي عن الصورة التي رسمها، حيث كتب له يقول: [لقد أجهدت نفسك في تصوير كطاغية مستبد، دون أن تقف طويلًا عند المسؤولية التي ألقيت على عاتقي..] إلى آخر تفاصيل الرسالة، ثم رسالة من مرجانة وهي تلومه على تطبيق معايير أخلاقية على محبوبها “دحمان”، وتقدم رؤيتها الخاصة لشخصيته، ثم رواية من الآغا ميمون، ورابعة من داهشة، وكلها رسالة تلوم الراوي على الصورة التي أوردها في سياق سرده، فهل أراد “دياب” بهذا أن يقدّم اعتذارًا “ما” لهؤلاء الشخوص كونه قد تناولهم بالصورة التي رآها، ورأى من مبدأ العدل و“الديمقراطية” أن يمنحهم صوتًا يأتي من البعيد ليقول كلمته في الزمن الحاضر.. أم تراه أراد أن يترك الباب مفتوحًا لقراءة “روائية” أخرى تنظر إلى هذه الشخصيات المتماهية بين الحقيقة والخيال بمنظر إبداعي آخر..! على أي وجه كان مقصده، تظل هذه الرواية - بنظري - علامة مضيئة في تاريخ الرواية السعودية، طيّها رؤية خلاقة لأحداث تاريخية عظيمة، قدّمها “دياب” في سياق سرد، عزّ عليَّ في بعض اللحظات أن أفرّق بين الحقيقة والخيال، لكني خلّصت نفسي من كل ذلك، فكيفي أن المؤلف يحمل صفة “رواية” لأقرأ بوعي ذلك، مستمتعًا.. مستذكرًا أن الموت قد أسكت قلمًا رائعًا.. يا “دياب”.. طبت حيًّا وميتًا.. لك مني السلام، والشكر على المتعة التي سربتها إليَّ في “مقام حجاز”.