في الحلقات السابقة استشهدت بنبوءة خاتم الانباء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليهم وسلم التي قال فيها: «زُويتْ لي الأرض مشرقها ومغربها حتى رأيت هذا الدين يدرك كل بيت حجر ووبر فيها» ولهذا الحديث «النبوءة» اكثر من رواية وقد صدق الله سبحانه عز وجل تلك النبوءة الشريفة.. بقوله تعالى في القرآن الكريم: (يُريدون أن يطفئوا نورَ الله بأفواهِهم ويأبى الله إلا أن يتمَّ نُوره ولوكره الكافرون).. (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) صدق الله العظيم.. وقد وردت في القرآن الكريم تصديقاً لنبوءته صلى الله عليه وسلم تلك آيات أخرى.. وتساءلت في الحلقات السابقة هل العولمة اليوم بما هي عليه من وسائل الاتصال والتقريب في عالمنا الذي نعايشه حتى غدت الدنيا في إطار قرية واحدة؟؟ لربما يتحقق فيها وعده الحق فنجسد نحن أتباعه نبوءة خاتم أنبياء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد ارتقينا على مستوى الالتزام الكامل بالهدى ودين الحق ليمكننا الله تعالى من قيادة مسيرة العولمة اليوم؟.. فسود الدين الحق في قالب الواقع والحقيقة يظهر الإسلام على الدين كله؟.. وهو وعده الحق عز وجل.. وللإجابة على هذا السؤال المصيري للإنسانية كتبت هذه الدراسة مستلهما التوفيق من الله.. وهذه هي الحلقة الثانية عشرة من دراستي التي أطرحها مسلسلة للرأي العام: المثالية في المدينة الفاضلة عند المنادين بها وكذلك إذا كانت مثالية الإنسان في المدينة الفاضلة للفارابي أو سومرت موم وغيرهما تجسد أحلاماً فيها أعشاش كعلب الكبريت.. وإذا كانت الطوباويات ينسجها اللاوعي والخيال المغرق في النشوة كما هو عند كارل ماركس في مجتمعه المثالي الشيوعي كما ظن. فإن الإسلام بمعانيه المثلى وأهدافه الواقعية البعيدة المدى يمكن لأي فئة من الناس أو مجتمع متكامل في أفراده ان يبني لها او له عالماً أمثل.. وكياناً أبدع في شتى الحقول الحياتية. ففي الحياة الاقتصادية يهيئ الإسلام للفعاليات المالية استثمار ثرواتها بأسلوب الربح المنعش للمستثمر والمشجع للمستهلك الذي يستشعر الزهو حينما يلمس رياله وهو ينتقل من جيبه الأيمن إلى جيبه الأيسر وبالعكس! بدون ربا او استغلال للفئة العاملة والكادحة الفقيرة من المؤمنين بالله. ولكن خلق الله.. هذا فضلا عن العلائق الاقتصادية مع الشعوب الأخرى والتي تقوم على أساس حرمة السيادة.. فينشأ عنها الخير والازدهار للطرفين... والحياة الاجتماعية للإنسان في حمى الإسلام تضمن له المناخ الفسيح الذي يهيئ له الحرية المطلقة التي نادي بأن حرية الفرد تنتهي حيث تصادم حرية الآخرين.. كما وأنها تضمن للمواطن العيشة الاجتماعية المعتدلة في العيش الكريم عندما يدركه الوهن.. وينظم الإسلام المعيشة الاجتماعية المعتدلة المتدرجة بالتوارث وهذا مفهوم فريد لا يتوفر في اي مذهب من المذاهب الاجتماعية او عقيدة من العقائد الأخرى.. «لكي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم» ثم إن الإسلام يكفل لمواطنه ان يحيا كأنه يعيش أبداً وهو يعمل كما هو حالة في العمل للآخرة كأنه يموت غدا!! والحياة الإجتماعية الفردية والاسرية في الإسلام تحتم على الابن الطاعة لأبويه والبر بهما وكذلك تلزم الأب والأم القيام بواجبها ازاء ابنائهما.. بل انه تسنُّ وتقرر وتفرض على الابن الدعاء لوالديه بالرحمة والمغفرة حتى وإن كانا على غير دينه.. بعد الموت والانتقال إلى رحمة الله تعالى.. كما وأن اواصر الرحم ووشائج القربى متينة حانية متعاطفة في الإسلام فهي تدعوهم الى تمتين الصلات وتبادل المنافع وتكاتف الأيدي وتعانق الأرواح. اما الترابط الاجتماعي بين الأفراد فوسائله كثيرة.. وفوائده جمة.. وأبوابه غير مغلقة.. لها صلة وثقى بالعلاقات الروحية بين الإنسان وأخيه الإنسان!! ثم هناك ضرب من ضروب الحياة الاجتماعية التي تكفل ازدهار المجتمع ونموه في الإسلام الا وهي الحياة الزوجية.. تلك الحياة التي سنها الله ازليا بارتباط آدم وحواء متعايشين في طاعة الله والتزام اوامره واجتناب نواهيه بعيدا عن الواقع المحسوس الى الواقع الملموس بالتناسل الشرعي والرفادة المرعية.. رقابة الله عليهما ورعايته المرجوة بالفطرة التي يرحم بها البنين بالدين الذي يؤمن به الزوجان لتتجدد الحياة ببلوغ الإنسان اشده!... ولا أود هنا التعرض للسيئات في المجتمعات البشرية ضمن حياتها الاجتماعية التي لم يهيأ لها سلوك دروب الإسلام الحقة بأسلوب صادق أمين يلتزم به من لا يتخذ الحق والدعوة الى الله غير ستار يتحلى متظاهرا بها كذبا وتدجيلا وضلالا.. اذ انني استعرض معالم وضوح مثالية الإسلام. وأما المجتمع في الإطار الإنساني فإن الدين الإسلامي يؤسسه على دعائم الفضيلة والبعد عن الرذيلة.. فلا فاضل ولا مفضول في الإسلام.. «إن اكرمكم عند الله اتقاكم».. و»لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى». وكان الإيثار عنواناً صادقاً بين المسلمين.. (يؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة) حتى ان الواحد منهم كان يقتات مع اسرته فيأتيه السائل.. ويأتيه السائل.. والسائل فيعطيهم ما هو بحاجة اليه ليسد به رمقه ورمق اسرته وعياله. وتلك الأمثلة المعروفة تشهد بأن الإسلام فيه ما هو أروع من الاشتراكية.. التي أسسها يعتمد على مادة بلا روح، مجرداً من الإيمان وصدق الإيثار وصفاء العاطفة.. بينما في الإسلام..» المؤمن للمؤمن كالبنيان شد بعضه بعضا».. وفي الإسلام ايضا.. «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى!!! كما وأن المخلوقات تترابط ارتباطاً وثيقاً بالإنسان في الإسلام وخاصة الأليفة منها.. (دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل خشاش الأرض). وكما أنه أوصى بإراحة الحيوان المأكول حين ذبحه!! وفي تشريعاته الجنائية وسائر تشريعاته خير وسيلة تؤمن الأمن وتيسر سبل العيش الشريف البعيد عن الترف الماجن الباعث على الجريمة والحاث على الرذيلة.. وسماته واضحة.. وخصائصه مميزة بين سائر التشريعات فهو الذي يضمن سلامة الأفراد.. (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) وليس هناك أية فوارق تهيء المجال للتخفيف في التنفيذ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يرسم ذلك بقولته المأثورة الخالدة: «والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها»!.. كما وأنه لا يلصق التهمة بالمتهم فهو يقول: «ادرؤوا الحدود بالشبهات». إنني ادرك بعمق اكيد وإيمان صادق انه ما من دولة جعلت القرآن الكريم دستورها في جميع تشريعاته شريطة تطبيقها على سائر افرادها إلا وكانت امثل دولة! توخي للإنسانية ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. لا تعني شعاراً يرفع وراية تخفق وكلمات يتبرك بها.. إنما هي تعني ذلك ولكنها اذا كانت العزيمة الصادقة رابضة خلفها تنفذ ما وراء ذلك الشعار كل تعاليم الإسلام تعني وتؤكد اكثر من ذلك بلا جدال لأنها اتباع لما انزل الله! والإسلام لا رهبانية ولا كهنوت فيه اذا ان المسلم مكلف بدراسة كل ما له صلة بأمور دينه، والمساجد هي المكان الذي يشير التاريخ بتسلسله لاستيفاء الدراسة والأخذ بتعاليمه وإن كثيرا من أهل الخبرة والاختصاص في أمور الدين الإسلامي تخرجوا من المساجد وهناك نفر من الأفذاذ منهم من استطاعوا أن يثبتوا أنهم خير من كثير من حملة الشهادات العلمية الكبرى في الفقه وفي أصول الدين وفي كثير غيرهما من العلوم!.. هم من خريجي حلقات المساجد! أما الدولة في الاسلام فهي تتمثل بالاخذ بكتاب الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً (59) (النساء: 59) وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ «فالحكم لله والخليفة مسؤول بين يديه ثم أمام المواطنين الذين وضعوا ثقتهم فيه بالبيعة. ينتصح بنصحهم ويسير على نهج يكفل لهم الحرية والخير والسلام والعدل والحق وكل المعاني السامية التي يجنح اليها مواطنوه إناثاً وذكوراً.. كباراً وصغاراً.. الضعيف عنده قوي حتى ينال حقه والقوي عنده ضعيف حتى يسترد منه حق الضعيف.. وهكذا.. فالخلق كلهم عيال الله! فإذا اختلفوا في شيء رجعوا الى كتاب الله ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم.ثم إن دولة الاسلام لا تقر الازدواجية في الحكم.. إذ أن السلطة التنفيذية تسير في مسيرة يراقبها الله سبحانه وتعالى ويحددها الدستور السماوي وتراقبها السلطة الجماعية.. سلطة الرأي العام.. ألا وهي الامة بكاملها.. ممثلة في مجلس شوراها.. وقد تتصدى عنها الطبقة الواعية المستنيرة بالحكمة الهادية والمشورة البناءة المخلصة.. «وأمرهم شورى بينهم» وهناك امثلة ومواقف كثيرة في هذا المضمار: ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن اقرب اليه من حبل الوريد (16) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال (17) وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18) وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (19) (ق: 16 - 18). وليس من حق الخليفة ولا يمثلونه اكتناز الأموال والعبث بمقدرات الأمة.. وليس من حق الخليفة توزيع المناصب على طالبيها بل الواجب يدعوه في حال كهذه الحال اختيار العناصر المؤمنة الصادقة الشريفة التي تتوفر لديها الثقة بالله والخوف منه ثم المؤهلات العلمية والعملية الفذة والجديرة بتحمل مسؤولية العمل المنوط بها!.. وفي النطاق العسكري يحث الاسلام مواطنيه بمعاني الدفاع عن الوطن والذات التي تقر العيون وتثلج الافئدة فيعود بذلك جلال مواكبهم العسكرية الموحدة المدعمة بأقوى العتاد الى ازهى عصور التاريخ يوم كانت الأمة الاسلامية تحمل مشاعل الحضارة.. حضارة العدل والحق.. والسلام.. ورغد العيش. وقد أوضح سبحانه وتعالى لنا اصلاح ذات البين بين الفرقاء ان اقتتلوا فرسم لنا ان أنصع الحلو في ذلك بقوله «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فان فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون أخوة فاصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10) (الحجرات: 9 - 10). وأما في حقل الإنشاء والتعمير فإن الإسلام يعدد الخطوط والبرامج الإنشائية والتجديدية التي تؤدي الى تنسيق المدن ورفع مستوى وسائل الاسكان والمرافق العامة بما يتواءم مع الفقه والبيئة والحياة الاجتماعية، وكل ذلك يكون فيه رفع لمستوى الفرد الخلقي والعلمي والاقتصادي ويفسح الطريق أمام الكفايات ويصقل المواهب ويجلي الصدأ عن عبقرية الشعب وبذلك يرقى باقتصاديات المسلمين وزراعتهم وصحتهم وصناعتهم وتجارتهم الى المستوى اللائق بفعاليتهم وبقدر العطاء يكون الأخذ. وفي مجال التعليم وتأهيل الفتية بسلاحه فإن الاسلام يعتبره إلزامياً فطلب العلم فريضة عنده على كل مسلم ومسلمة.. كما وأنه يحث على اكتسابه حيث كان.. ومهما كان.. حتى ولو في الصين!.. وفي العصر الذي نعايشه اليوم تقاربت الأمم بوسائط كثيرة ومنها التلفزيون والاذاعات والهواتف والإنترنت وبقية التقنيات حتى ان الحدث يشاهد وقت حدوثه بكل حيثياته أي أن تلك الوسائط من الممكن ان تكون مدعاة للتعايش السلمي بين الشعوب. كما وأنها تهيئ للأجيال دعائم قوية وعميقة لترسيخ المبادئ الخيرة وتطهير الأذهان من الشوائب الشريرة الآثمة العالقة بالتوارث.. وصروف الزمن. بقي جانب هام وأساسي وهو طريقة تفاعل الأمة الاسلامية مع الأمم والشعوب الأخرى وتطلعها للاتصال.. اتصال الأمة بالأمة والأرض بالأرض.. واتصال الحاضر بالماضي.. اتصال في المكان والزمان لوحده الأرض. ووحدة الشخصية عبر الزمان.. والمجال الذي فتحه الإسلام بما عند الأمة الإسلامية من استعدادات ونزعات وامكانيات واستثمرها لخيرها وخير الانسانية.. وسع افقها ونقلها من الصعيد القبلي الضيق الى الصعيد الانساني فارتقت بذلك من واقعها الأرضي المتقلب الى الكمال الإلهي والأزلي. هذه إلمامة مقتضية تحكي معالم الوضوح في مثالية الحكم في الإسلام:( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) صدق الله العظيم الحجرات:( 13). يتبع المدينة المنورة