زلزال في الصحافة المصرية تذكرت خطواتي الاولى في أوائل الستينيات وانا أخطو خطواتي الاولى لهذا المبنى الضخم (مبنى أخبار اليوم) في شارع الصحافة في مصر وبصحبة والدي يرحمه الله ودعوت الله ان يكتب لي العمل في هذه المؤسسة الصحفية الكبيرة وتحقق حلمي ووجدت نفسي في هذا السن الصغير وسط جيل من العمالقة كامل الشناوي ومصطفى بك امين وعلي أمين وجلال طنطاوي وجلال دويدار وابراهيم سعدة وكان شاباً في مقتبل العمر وفي هذا المبنى الكبير شاهدت لأول مرة انيس منصور وجلال الحمامصي ومها عبدالفتاح وعبدالفتاح البارودي والعشرات من الصحفيين الكبار، في هذا الوقت لم يكن لي هدف في الدنيا الا قراءة ما يكتبون والتعرف عليهم عن قرب ومتابعة كل (الخبطات الصحفية) التي يقدمونها في الاخبار وأخبار اليوم ومجلة الجيل ومجلة آخر ساعة ودعوت الله ان أكون ضمن فريق التحرير والصحفيين وتحقق لي ذلك فيما بعد على يد الصحفي الكبير "انيس منصور". كانت الصحافة في هذا الوقت ثلاث صحف قومية كبيرة الاهرام واخبار اليوم والجمهورية وكنا نعرف ان هناك رقيباً في الصحافة المصرية يمكنه ان يعترض على اي خبر أو مقال أو تحقيق صحفي وعلى الصحيفة ان تحجب هذا المقال (فيما عدا) جريدة الاهرام حيث كان الاستاذ محمد حسنين هيكل بقربه من الرئيس جمال عبدالناصر (فوق تعليمات الرقيب) ولم يستطع الرقيب يوماً ان يحذف له مقال او ينزع خبراً من (جريدة الاهرام) فقد ظل هيكل واحداً من اقرب المقربين الى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر. بعدها مباشرة جاءت القوانين الاشتراكية واممت الصحافة المصرية واصبحت تابعة للاتحاد الاشتراكي او تحديداً لمجلس الشورى الذي اشرف على الصحف القومية واعطى تصاريح للصحف الخاصة لتعمل وفق ضوابط محددة وكان (صفوت بك الشريف) وهو رئيس مجلس الشورى فيما بعد المشرف العام على الصحافة المصرية وهو الرجل المسؤول عن تعيين رؤساء التحرير (او فصلهم) او نقلهم من صحيفة لاخرى.. وتعاقب على اخبار اليوم رؤساء كثيرون منهم أمين شاكر وهو أحد ضباط (ثورة يوليو) وتولى السلطة فيها الكاتب الكبير احمد بهاء الدين والكاتب اليساري الكبير محمد أمين العالم (يرحمه الله) واحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وتداول رئاسة اخبار اليوم العديد من الصحفيين الكبار وظل الاستاذ (هيكل) صامداً في الاهرام حتى بعد انتهاء الحرب في عام 74م حيث قرر الرئيس السادات ابعاد هيكل ومن ثم التحفظ على كبار الكتاب في مصر لانهم كانوا يعارضونه في بعض توجهاته السياسية وتولى رؤساء تحرير الصحافة المصرية رؤساء (موالون للحكومة المصرية) ابراهيم نافع في الاهرام وابراهيم سعدة في اخبار اليوم وسمير رجب في جريدة الجمهورية وكانوا هم الصحفيون الكبار الذين يتلقون تعليمات مباشرة من (الرئاسة) وكانت لهم سلطات مطلقة وتصرفات مالية مطلقة في المؤسسات الصحفية الكبيرة والمؤسسات الصحفية الخاصة كانت (غير معلومة). الجيل الجديد من الصحفيين وبرز نجم الحزب الوطني في مصر لسنوات قاربت الثلاثين عاما وكان (صفوت الشريف) هو الأمين العام للحزب الوطني وهو رجل مخابرات سابق وتولى رئاسة مجلس الشورى والمناط به اختيار القيادات الصحفية وعهد الى احد ابرز وجوه الحزب الوطني الوزير كمال الشاذلي في اختيار الجيل الجديد من الصحفيين الشبان واغلبهم من خريجي الدفعة (الاولى والثانية) من كلية الاعلام بجامعة القاهرة والتي اسسها الصحفي الراحل الكبير جلال الحمامصي واختار الشاذلي مجموعة موالية تماما لنظام الرئيس محمد حسني مبارك اسامة سرايا (للاهرام) العريق وممتاز القط (لاخبار اليوم) ومحمد بركات (للاخبار) ومحمد علي ابراهيم بجريدة الجمهورية، في هذا الوقت ظهرت صحف خاصة وصحف معارضة قوية منها المصري اليوم الذي تولى رئاسة تحريرها (مجدي الجلاد) وصوت الامة وتولى رئاستها وائل الابراشي والدستور وتولى رئاسة التحرير فيها (إبراهيم عيسى) وظهرت صحف أخرى مثل البديل، والجماهير ونهضة مصر وأصبح عدد الصحف اليومية والاسبوعية في مصر حوالى (مائة وثلاثين) جريدة ومطبوعة وبدأ الناس يقرأون في صحف المعارضة والحزبية والخاصة شيئاً جديداً مما يجدونه في (الصحف القومية) وأقبل المصريون بطبيعتهم وأنا واحد منهم على قراءة هذه الصحف التي كانت تعمل في ظروف غاية في القسوة والترصد (من الحزب الحاكم) حين تم حبس الدكتور أيمن نور رئيس تحرير صحيفة الغد وصدر حكم ضد إبراهيم عيسى بالحبس ولكن افرج عنه الرئيس محمد حسني مبارك ورفعت عدة دعوات قضائية ضد وائل الابراش وبدأت هذه الصحف تشكل (شوكة في حلق النظام) ولكن النظام يستخف بها رغم انها فرشت الأرض للمعارضة وكشف خبايا الفساد والاستيلاء على المال العام من كبار المنضمين للحزب الوطني. الزلزال وجاء فجأة زلزال الشباب في مصر في الخامس والعشرين من يناير الماضي وبدلاً من أن تكون (ثورة للشباب) أصبحت (ثورة لكل المصريين) الذين عانوا كثيراً من تصرفات الكبار في الحزب الوطني وتجاهل الفقراء والمهمشين (وسكان القبور) وحي (الدويقة) وانضمت كل قوافل الشعب المصري لهذه الثورة الشبابية التي هبت بها رياح التغيير لتلحق بقطار الصحافة. اجتمع الصحفيون في الاهرام والجمهورية ووكالة أبناء الشرق الأوسط وجريدة المساء وروز اليوسف ليحاسبوا رؤساء تحرير هذه الصحف والذين اعتبروهم موالين (للنظام القديم في مصر) واستمروا في الدفاع عنه حتى الرمق الأخير وبعضهم مثل (ضياء رشوان) اعتبر أن وجودهم في الصحف القومية (غير شرعي) وعليهم بالرحيل وكانت أولى الخطوات في (وكالة أنباء الشرق الأوسط) التي طالبت بتنحية (عبدالله الحسن) رئيس وكالة أنباء الشرق الاوسط المصرية الرسمية، وامتدت المطالبات نفسها الى صحيفة الاهرام والجمهورية، وبعض رؤساء تحرير الصحف المصرية خرجوا من مكاتبهم في حراسة (قوات الشرطة العسكرية المصرية) وحينما ذهب نقيب الصحفيين المصريين الأستاذ مكرم محمد أحمد الى ميدان التحرير فوجئ بأن حوالى (ثمانمائة صحفي يطلبون منه الرحيل عن ميدان التحرير) لأن كتاباته كانت (مع النظام) وضد شباب الثورة الجديدة، وارتأى الرجل (وهو كبير السن) أن يأخذ إجازة مفتوحة من كرسي نقيب الصحفيين ويفوض نائبه للعمل بدلاً منه بل إن مجلس نقابة الصحفيين المصريين دعا الى اجتماع عاجل للجمعية العمومية لنقابة الصحفيين ليحددوا علاقة (الصحافة) بالمجلس العسكري الذي يحكم مصر في الوقت الحاضر. كل هذه الغيوم هبت على صحف ومجلات روز اليوسف والاهرام والجمهورية وبعض الصحف الخاصة.. غيوم كثيرة وتساؤلات حول الصحافة المصرية فالبعض منها اخذ يغير جلده (وبدرجة 180) من كان مع النظام الى ضد النظام الأخير.. حمى الله مصر الغالية.