** ذات مساء كنت عند احدى الاشارات المرورية في شارع التحلية بجدة، وتقدمت نحوي سيدة من عشرات اللواتي نراهن صباح مساء يمارسن التسول، ومدت يدها تطلب صدقة، وعندما لم يكن لدي - حقيقة - "فكة" ناولتها نصف ريال "القطعة المعدنية المعروفة" فأخذتها، وكان مايزال زجاج سيارتي مفتوحاً، ثم فجأة وفي مشهد درامي مدهش عادت السيدة نحوي لتقذف بالنصف ريال فوق صدري، قائلة: شكراً.. ما أبغى هذا ؟!! .. طبعاً كانت زعلانه لأنه نصف ريال فقط، ولم يكن عشرة ريالات، أو خمسة ، او حتى ريالاً واحداً. ** أنا "أسقط في يدي" وعقدت الدهشة لساني، ولم استطع لثوانٍ أن أعبر عن مشاعري، لكنني بصراحة رحت "أغلي" وبدأت ألوم نفسي، قائلاً: "الشرهة ماهي عليك.. الشرهة عليّ أنا وأمثالي ممن يعتقدون أن الاحسان لهؤلاء هو في مكانه". ثم بدأت أفكر طيلة مسافة عودتي إلى بيتي في هذه "الموجة" الهائلة من الشحاذين ، الذين انتشروا في معظم شوارع جدة كنبات الفطر ، فيما مكتب مكافحة التسول يبدو وكأنه " نائم في العسل" . ** وبالمناسبة فقد لفت انتباهي ماقاله أحد الإخوة الكتاب قبل فترة، عندما قال إننا هنا نعتبر البلد الوحيد تقريباً في العالم الذي يستقدم حتى الشحاذين، وأظن أن اؤلئك المتسولين من غير السعوديين، ممن له حكايات عجيبة مع عالم التسول، وما يحوطه من قصص اسطورية، وما يقال من أنهم أقرب إلى العصابات المنظمة، التي يرأس كل مجموعة شخص واحد، "يفرقهم" صباحاً، ثم يجمعهم مساء ، ويتقاضى منهم "المعلوم" في مسرحية يومية، تجري بانتظام فوق شوارعنا، ويتم حبك فصولها - فيما يبدو - بأسلوب تجاري لكنه غير شرعي، بل هو ضمن مخالفة مركّبة، الأولى أنهم بدون اقامات نظامية، والثانية أنهم يمارسون التسول كمهنة غير مرخصة بالطبع. ** وأظن أن للمواطن والمقيم معاً دوراً في استشراء ظاهرة التسول فهو يغذيها ويساهم في نجاح سوقها بشكل مباشر، عندما يدفع لها بالصدقة، والصدقة هنا هي "الوجه المشتبه" في المسألة ، فثمة من يرى أن هؤلاء مساكين وأن الرفق بهم مطلب ديني وانساني ولذلك يندفع هذا الفريق تحت هذا الشعور الى امدادهم بالمال - كل بما تجود به نفسه - وثمة من يرى أن اولئك الشحاذين ماهم الا عصابة تضحك على ذقوننا، وتستدر الرحمة والعطف والمساعدة منا، ولذلك لايصح حتى شرعاً أن يدفع أحدنا لهم ولو قرشاً وأحداً، وهنا تتطلب هذه المسألة الرأي الفقهي الشرعي الذي يحسم هذه القضية. ** أنا شخصياً - وبحسب متابعاتي - لم اقرأ ومنذ شهور طويلة أي حراك ظاهر لادارة مكافحة التسول في جدة، وقد كان يجب على هذه الادارة ان تمارس فعلاً ملحوظاً على الأرض، وأن تنطلق فرق المكافحة للقبض على جحافل التسول التي صارت عند الكثير من اشارات المرور عندنا، وأن تحاول الادارة تبني عقد مؤتمر صحفي توضح من خلاله وبشكل شفاف حجم هذه المشكلة ، وخطط محاربتها، ورأي الشرع في تقديم الصدقة لشحاذي الاشارات المرورية من مصادره الشرعية المعتبرة. ** الذي استطيع أن أؤكده ان عدداً من أولئك الشحاذين صرنا نحن عابري الطريق، نعرفهم شكلاً وربما وجها ومنذ سنوات، الامر الذي يعطي دلالة على أن جهود مكافحة التسول إما ضعيفة أو منعدمة، وفي كل الاحوال فإن المسألة برمتها لا تخلو من أسئلة مريبة.