من المفارقات اللافتة , أن العالم يظل يتحدث كثيرا وطويلا عن الدولة التي تستضيف بطولة كأس العام " المونديال " .. بأضعاف ما يتحدث عن استضافة السعودية لمناسك الحج , مع إن مستضيفي كأس العالم يتناوبون على احتضان ذلك المحفل الدولي الرياضي كل أربع سنوات من بلد إلى بلد آخر . بينما موسم الحج بكل زخمه العالمي , نظل نحن السعوديين لوحدنا نحتضنه سنويا وليس كل أربع سنوات , وإذا كان يشهد المونديال مئات الألوف , يتفرقون بين حوالي أربع مدن متباعدة , فإننا نحن السعوديين نستقبل في مكةالمكرمة لوحدها من مليونين إلى ثلاثة ملايين إنسان , ثم ننظم هذا الحشد ونتابع تدفقهم إلى واد واحد لثلاثة أيام كما هو الحال في مشعر منى , ولليلة واحدة في مشعر مزدلفة , وليوم وشي من الليل بمشعر عرفات . قبل المونديال تُهلل وسائل إعلام العالم كله للبلد المستضيف , وتتوسع في عرض ما بذله من جهود وحسن تنظيم , ثم يصل الحديث ذروته صباح وليلة افتتاح المناسبة , مرورا بأيامها التي تستمر شهرا من النقل الإعلامي المذهل , حتى تكون ليلة المباراة النهائية وحفل الختام فيصبح ذلك حدثا دوليا مشهودا . بينما نحن هنا في السعودية لا نحظى بنصف تلك الحفاوة الإعلامية , ولا بثلث تلك " الفرقعات " الصحفية المدوية , مع أن الفرق عظيم بين هناك وهنا وبكل المقاييس , سواء في حجم الجهد المبذول , أو في حجم التدفق البشري , أو في طبيعة مكان الحدث , أو في حرفية الالتزام بالزمن المحدد - باعتبار الحج – عبادة لا تقبل الخيارات المكانية أو الزمانية التي قد يفاضل بينها احدنا لو رأى زحاما . الجهد الذي نقدمه نحن السعوديين في الحج لا يمكن لأي منصف في هذا العالم إلا أن يقف أمامه طويلا , ليس واصفا ولا ناقلا ولا متحدثا وحسب , بل مذهولا حتى أقصى درجات الذهول , ومحترما له إلى أبعد درجات الاحترام , ورافعا القبعة حتى السماء ثناء وإعجابا به .. ولابد أن يسأل نفسه أكثر من سؤال عفوي .... كيف يمكن لهؤلاء السعوديين أن يستوعبوا كل هذا الجحافل البشرية , ثم بعد ذلك يديرون حركتها في تناغم وانسجام ليس له نظير على مستوى العالم , تناغم لا يقبل أدنى درجات السهو أو الخلل , وإلا فان معناه كارثة ستحدث .. وانسجام لا يحتمل أي غفلة أو خطأ وإلا فانه ستكون ضجة كبيرة , ثم بعد ذلك نقدم للعالم المناسبة على طبق من ذهب , وبدرجة نجاح ممتازة مع مرتبة الشرف الأولى . وأكثر من ذلك يظل نجاح السنة السابقة لا يرضي كل طموحنا , ولا يمحنا القناعة التامة بالسعادة الكاملة , فنظل نجاهد لتحقيق نجاح أكبر وتفوق أوسع وتقدم أعلى في السنة القادم , كأنما قدرنا أن نتحدى ليس أنفسنا فقط , ولكن أن نتحدى - التحدي نفسه , في قصة انجاز عالمية خالدة , تكتب بماء الذهب من قصص كفاح الإنسان السعودي , مع شرف المهمة بكل معطياتها ومتغيراتها ومفاجأتها . صحيح أنه في يوم عرفة المهيب بكل حشوده وظروفه وتحدياته ينفتح علينا الإعلام العالمي لساعات , ثم ينسل دون أن يروي القصة كاملة , ودون أن يسجل الحدث بدقة , وبغير أن يقدم ما وراء الحدث .. الإعلام العالمي يرى المناسبة وكأنها اجتماع تقليدي لبضعة ألوف من البشر يمكن لأي أحد أن يديرهم , بينما تظل الحقيقة غائبة , حقيقية ذلك الجهد الخرافي الذي تم ويتم تسخيره لإدارة أكبر حشد تشهده الكرة الأرضية , يتقاطر على جنبات أصغر بقعة , وفي أقل وقت .. ثلاثي مهيب - الحشود , صغر المكان , ضيق الوقت – ثلاثي يتعامد معا ويتلازم ولا ينفك , ثم تتم إدارته وتحدي ظروفه , والتحليق به في سماوات من دهشة النجاح المدوي . ملك البلاد .. يكون سنويا على بعد أمتار قليلة ملاصقا للحدث , كأنما يحمل في كفه بوصلة تحريك الحشود , فهو على مدار الساعة يراقب , يتابع , ويوجه .. والقيادات الكبيرة في الدولة تتناثر في ميدان المناسبة , وسط غابة البشر , وتظل الليل مع النهار مشغولة بتذلل الصعاب , وعشرات الألوف من العناصر الميدانية تنهمك في تنفيذ خطة إدارة الحشد , وفق برنامج غاية في الدقة , وضمن تناغم مذهل من تمرير الأوامر بحنكة فريدة من هذا لذاك . السعوديون يفعلون كل ذلك وليس في أذهانهم الانشغال بأن يهلل العالم لنجاحهم وتفردهم وعبقريتهم , بل إن ما في أذهانهم وما يشغلهم هو فقط إرضاء ربهم سبحانه وتعالى , الذي أكرمهم بشرف أن يكونوا خدما لضيوف بيته العتيق وحرمه الشريف من العمار والحجاج , فان قال أحد كلمة ثناء وشكر فان ذلك مما يكون من خصال المؤمنين الذين يقتفون " من لا يشكر الناس لا يشكر الله " .. وان إنحبس عنها فان شكر الله تعالى هو غاية المقصود . ومن يدري فلعل اطلاعة من المولى عز وجل على تلك الجهود الضخمة – المفعمة بالإخلاص , من رجالات هذا البلد المبارك في موسم الحج , تكون بركة وخيرا ورزقا عظيما على بلادنا ( َمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) .. وسببا لأمنه الدائم ورخائه وازدهاره .. ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) .