أسبانيا، وفي اليوم الحادي عشر من شهر يوليو الجاري، وبمن كان فوق ترابها من مواطنين ووافدين وسياح، أقاموا عرسا لم يشهد تاريخها مثله من قبل، فجميعهم، وقد اقترب موعد الحسم في كأس العالم لكرة القدم، أخذوا يستعدون للفرح بتزيين ميادين مدنهم وقراهم وكأن الفوز أمر محتم، ونصبت العديد من شاشات النقل التلفزيوني العملاقة في الميادين الرئيسية، وحول هذه الشاشات أخذت الجماهير- ومنذ صباح ذلك اليوم - تحتشد لمشاهدة المباراة، رافعة الأعلام الأسبانية، والغالبية منهم يرتدون القمصان الحمراء والصفراء المتجانسة مع ألوان العلم الأسباني، وكانت عبارة بيبا أسبانيا "عاشت أسبانيا" الهتاف الذي تردده الجماهير كثيرا من حناجر قوية ومؤمنة وواثقة. وما من متابع للمباراة في أسبانيا إلا وكان مع الفريق الأسباني، ويؤمل بفوز أسبانيا بالكأس الذهبي الذي طال شوقها إليه، جميعهم كانوا على يقين بأن فريقهم الذي يلعب بعيدا في جنوب أفريقيا لن يخيب ظنهم، ولن يبخل على الوطن بكأس ذهبي يخفف من معاناة الأزمة الاقتصادية. هذه المقدمة كانت لرشا وقد عادت من ميدان سيبيليس – وسط مدريد – في ساعة متأخرة من الليل لتزودني بمراسم العرس الكبير ونشوة النصر تزين وجهها الصبوح. ففي تقديرها أن فرح الأسبان بالكأس يفوق فرح أي عروسين بعرسهما، فهنا كان العرس لأسبانيا، وكان سلوك الفريق الأسباني وهو يتبادل الكرة مع منافسه الهولندي شاهدا على روحه الرياضية وسمو أخلاق لاعبيه، وكانت صيحة بيبا أسبانيا تصدح بحلاوة وشجن وكأنها نشيد الولاء للوطن. ذكرت لي رشا أنها التقت بالصديق الأندلسي هيثم وسط مئات الألوف المؤلفة من المحتشدين حول شاشات النقل التلفزيوني، وأنه كان أكثر انفعالا من الآخرين وهو يتابع المباراة، يريد الكأس لأسبانيا، وبالتالي يرفع صوته عاليا ليحذر لاعبا من الفريق الأسباني من اقتراب لاعب هولندي، أو ليحفزه على إصابة الهدف، مع أنه أمام شاشة في مدريد واللاعب في أقصى جنوب القارة الأفريقية، وكثيرا ما استهان بالفريق الهولندي وهو يصيح : ما عليكم من شعب الزبدة، فحرارة الجو ستسيحهم. وعندما تحقق النصر أخذ يجهش بالبكاء، طلبت منه رشا أن يتوقف عن البكاء لأنها ساعة فرح، فهز رأسه بما يفيد الموافقة غير أن له ظروفه الخاصة، فليس من غُطسَتْ رجليه بالزيت المغلي مثل من غطست رجليه بالماء البارد، فهو، وإن كان مواطنا أسبانيا، فهو بالأساس مواطن عربي، فلسطيني الانتماء، سوري الولادة، ومسقط رأس آبائه وأجداده يرزح تحت نير الاحتلال منذ عام 1948، وهي سنة النكبة التي حولت الفلسطينيين من آمنين إلى لاجئين، وأرغمت والدته وهي في شهور حملها الأخيرة له أن تغامر بحياتها وبحياة الجنين فتنضم إلى قافلة المُهَجًرِينْ وقد اتجهت إلى دمشق. يضيف الصديق الأندلسي بأنه وهو يتابع حركة انتقال الكرة بين أقدام الفريقين كان يتخيل معركة الفصل في فلسطين، وأنه راهن بينه وبين نفسه على أن انتصار الفريق الأسباني هو مؤشر على قرب الفرج وانتهاء المعاناة، وأنه مع ترديد الجماهير لبيبا أسبانيا كان عقله الباطن يردد مقطع "القدس لنا" من قصيدة سيدة المدائن لفيروز، ومع تدافع الجماهير للحصول على رؤية أفضل للمباراة عبر الشاشات الضخمة كان يتخيل تدافع الجماهير الفلسطينية نحو الحرم الإبراهيمي وكنيسة القيامة وقد تحررت القدس من الأسر، كما عادت ذاكرته لتروي له مجددا ما ورد في العهدة العمرية التي أعطت أهل القدس حرية العبادة والإقامة، كما تخيل القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي وهو يستلم القدس ويؤمن للغزاة الصليبين سبل عودتهم من حيث أتوا، وهتاف الجماهير المحتشدة ب"غول" مجلجلة التقطتها حواسه على أنها زغرودة أهله وهم يعودون لبيوتهم في فلسطين. تقول رشا أنها طبعت على خده قبلة أبوية ورجته أن يعود لتفاؤله، وحولت الحديث معه من المباراة إلى سبب قدومه إلى مدريد وهو العاشق لأشبيلية فأجابها بأنه قدم إلى مدريد ليستلم من صديق له قادم من الأرض المحتلة على طائرة الغد هدية العمر، فسألته عن طبيعة الهدية فأجابها حفنة من تراب صفد.