منذ القديم، كانت البادية العربية، منبعاً للمأثورات الخلقية والحكم والمواعظ والحكايات التي تحمل العبرة والفائدة.. وفي تراث الأسلاف الكثير من هذه الحكايات التي أورثها الأجداد للآباء والآباء للأبناء، وهي مدونة في كتب السيرة والتاريخ والأمثولات المتداولة، ولا نرى ضرورة قصوى في المادة نشر ما نشر.. ولهذا سوف نقدم في هذه «النافذة الحرة» بين حين وآخر بعضاً من تلك الحكايات مما لم ينشر، أي أنه جديد، وذلك من استطلاع بعض تلك الحكايات عن ألْسِنةِ أبطالها أو شهودها. نحن اليوم مع قصة من بادية شمال المملكة رواها لي شيخ كبير من أعيان المدينةالمنورة كان من كبار قادة حرس الحدود بَدْءَ تأسيسه فقال لي ومعي مجموعة من الشباب، كنت أعمل ضمن حراس الحدود القائمة على تخوم بادية شمال المملكة، وقد خرجت بمهمة في سيارة، فضاعت مني معالم الطريق، وتهت في تلك البادية الوسيعة حتى نفد الوقود من السيارة، وكان يومها أيام صيف قائظ والحرارة فوق رأسي تتجاوز خمساً وأربعين درجة.. ويتابع المحدث روايته قائلاً: لم يكن هناك أي أمل في مرور إنسان أو حافلة أو قافلة، ولهذا أدركت أنني سأهلك من الحر والعطش، فقررت أن اسير باتجاه الشمال لعلي أصل إلى الطريق الذي أريده، أغلقت السيارة وربطت غترتي بالعقال متلثماً رأسي، وتوكلت على الله وسرت على قدمي ماشياً شمالاً وقد أخذ مني العطش كل مأخذ. وبعد مسيرة ثلاثة ساعات، وكدت أن أقع إعياءً على الأرض، لاحت لي مضارب البدو .. في خيام من الشعر .. فاستبشرت خيراً، وحاولت أن اغز السير باتجاه تلك المضارب، فوصلت أول خيمة فيها وأنا في الرمق الأخير من العطش. ظهرت امرأة بدوية على باب الخيمة تستفسر، فأشرت إليها بأنني أريد أن أشرب، فقالت: أبشر .. وهرعت إلى «قربة» معلقة على باب الخيمة مليئة بالشنينة الباردة وهي في اصطلاح البادية «اللبن بعد خض الزبدة منه واستخراجها» وملأت لي طاسة، ولكن قبل أن تقدمها لي مدت يدها إلى كيس فيه تبن «قش البُر أو الشعير» ورمت «حفنة» منه في الطاسة وقدمتها لي .. استغربت فعلتها، ولكن لشدة عطشي قررت أن أشرب، وبدأت أنفخ في الطاسة لإبعاد حبات قش التبن، واشرب رويداً رويداً حتى ارتويت.. علمت فيما بعد أن رمي التبن في الطاسة كان لحكمة..! لأنه لولا التبن لتجرعت طاسة الشنينة الباردة كلها على عجل وأنا في هذا الوضع الذي يلتهب فيه حلقي وأحشائي، فتكون العاقبة وخيمة، ومن هنا كان سبب رمي التبن في الطاسة حتى أنفخه وأشرب على مهلي رويداً .. رويداً!!! ويتابع الصديق: علمت فيما بعد من قراءاتي أن أحدث الثوابت الصحية الطبية في العالم تنصح بوجوب شرب الماء أو السائل البارد على وتيرة وتمهل إذا كان الإنسان محروراً وهذه إحدى الحكم الطبية التي قدمتها لنا بادية العرب!!