كثيراً ما يؤدي الغنى والشباب والقوة والفراغ والفتوة أحياناً أخرى بما نسميه بطيش الشباب، هذه التصرفات تتسم بالرعونة والشدّة والاعتداء على الغير دون وجه حق. لكن النفس البشرية السوية المطمئنة كثيراً ما ترجع هذه المصائب والويلات إلى شيء سبق اقترافه أو ارتكابه في حق الآخرين أو في حق الله سبحانه وتعالى نتيجة خطأ سلوكي اقترفه الإنسان. نشاهد كثيراً من القضايا في المحاكم الكبرى يكتنفها الغضب والزهو بالنصر أو الجاه أو القوة في أكل مال اليتيم أو الضعيف أو ضرب المظلوم أو الإساءة إلى امرأة بسوء الظن ففي هذه الدنيا كثيراً ما نُعاقب بعد الحدث الذي ارتكبناه في حق الغير فنصاب في أنفسنا أو في أبنائنا أو في أموالنا. حينها نتألم ونبكي ونتأسف ونتراجع في كثير من المواقف التي سبق وأن قمنا بها ونتذكر أننا شهدنا شهادة زور ضد فلان؟ أو أسأنا الظن بآخر أو ضربنا متسولاً أو نهرنا كبيراً في السن. أخبرني الشاعر الغزّاوي غفر الله له أنه كان نائماً في مكتبته بداره في جبل هندي بمكةالمكرمة في الدور الأرضي القريب من الشارع في أحد أيام رمضان فإذا بأحد العمال وهو من الجالية الإفريقية يحمل على رأسه مجموعة من الصفيح فوجد الظل تحت روشان مكتبة الشيخ فجلس وأخذ راحته وفرد ذلك الصفيح وجلس يعدله بالمطرقة والقدوم ليكون صالحاً لعمل بيوت الصفيح، وكان ذلك الحدث مقلقاً للشيخ في نهار رمضان وهو نائمٌ، فاستيقظ من نومه على صوت طرق الصفيح وخرج للعامل الضعيف ورمى بالصفيح من الجبل إلى السهل. يقول الغزاوي لي يرحمه الله وكأنه أمامي الآن: (يا واد اسمع مني نصيحة تقولها بكرة) يردف قائلاً الغزاوي لي: (رفع العامل حينها يده إلى السماء مشيراً إليها بما حدث وكأنه يناجي السماء ويشتكي بلغته إلى الله سبحانه وتعالى) حينها شعر الغزاوي بذهول من تصرف هذا العامل الضعيف وأردف قائلاً: (لم أصل إلى مكتبي حينها حتى استجاب الله دعاء هذا المسكين وسقط الجراج على سيارة الشيخ الجديدة وحطمها تماماً!! عرفت من ذات نفسي حينها أن ذلك ذنب العامل المسكين، فرجعت إليه وطلبت منه العذر وأعطيته ما يرضيه! قلت: أظنك حرَّمت أن تنام في ظهر رمضان بمكتبتك. فقال: لم أدخلها طيلة شهر رمضان بعدها! فالعبرة من هذه القصة أن أصحاب الفكر والثقافة والإحساس العاقلون هم الذين يتدبرون ويتراجعون عن مواقفهم ويستفيدون من أخطائهم ويعتذرون لغيرهم مهما كان شأنه وموقفه، حقيقة إنهم كانوا كباراً بأعمالهم وأخلاقياتهم وإيمانهم بالله بأنه سريع الحساب والانتقام. وهناك قصة أخرى حكاها لي أحد أرباب الطوافة في مكةالمكرمة، هذه القصة حقيقية توضح لنا أن الأجيال السابقة تتميز بالإحساس والإدراك وسرعة الاستجابة، نعم إنها ترتكب الأخطاء لكنها سريعاً ما تربط سلوكها بتلك الأخطاء وتربط ما ينزل بهم من عقوبة فيعرفون ويعترفون ويتوبون إلى الله ويستغفرونه، أخبرني هذا المطوف أنه بعد الحج مباشرة استلم عوائد الموسم وذهب هو وأسرته إلى مصر في الطائرة ولكن الطائرة كادت أن تسقط من سوء الأحوال الجوية الكل كان يبكي ويستغفر، يقول هذا المطوف تذكرت موقفاً وهو أن المال الذي ذهبت به هو مال حرام، حيث إنه لم يقم بذبح الأضاحي للحجاج ولم يؤدِّ الحج عمن أوكله بمقابل نيابة عنه وهو ما كان يسمى (بحجة البدل) يقول ساعتها وهو بين الخوف والرجاء والأمل والنجاة عاهدت نفسي أن أرد المظالم إلى أهلها وتبت إلى الله توبة نصوحاً، قلت في نفسي.. هذه المواقف لم نسمعها في أجيالنا الحاضرة، وما أكثر الجرائم اليوم وليس الأخطاء الشائعة بيننا، فالمظالم كبيرة والجرائم كثيرة والتعدي على الغير أكثر من أن يدرك، هذا عدا الكبائر التي ترتكب ولا حياة لمن تنادي، فالرجوع للحق هو سمة من سمات المؤمنين الصالحين فهم يخطئون ويتوبون ثم يستغفرون، هل لدينا إحساس بأن ندرك أخطاءنا ونتدارك حساباتنا في الدنيا قبل الآخرة؟ فالله سبحانه وتعالى لديه وقت يسمعنا ويسمع توبتنا فهل لدينا وقت ندرك ونستغفر ونتوب في الدنيا قبل الآخرة؟