دأبتُ على إشراك طلابي في عملية تقييم بعضهم بعضاً لتعليمهم الحكم على عمل الآخرين، بعد أن أوضح أن أسلوب "اشهد لي وأشهد لك" لن ينفع، لأن حكمك على عمل زملائك هو امتحان لك. وأبيّن لهم بأن حكمهم اليوم على درجات بسيطة لا يساوي شيئاً أمام حكمهم في المستقبل، وهم مهندسون، على مشروعات قيمتها بالملايين. وما أجمل قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط، شهداء لله، ولو على أنفسكم، أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا). والمبالغة في "قوامين" تعني تكرار القيام بالقسط، حتى على أنفسكم، بإقرار بالحقوق عليها، وعلى الوالدين، فوجوب برهما لا يعني الشهادة لهما ظلماً، وعلى الأقربين فهم مظنة المودة والتعصب. وشهداء لله، أي طلباً لمرضاته وثوابه. فإن يكن المشهود غنيا فلا يُراعى لمكانته، وإن يكن فقيرا فلا يُراعى إشفاقا عليه، فالله أولى بما اختار لهما من فقر وغنى. وتأمر الآية بعدم اتباع الهوى، لأنه يحمل على الشهادة بغير الحق. ومن يلوي الشهادة أو يعرض عن أدائها، فليتذكر أن الله عليم خبير. وتؤكد آية أخرى على وجوب العدل حتى مع الأعداء: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون). وعنوان مقالي هو جزء من آية، تطالب بالعدل في كل الأقوال. ومن أمراض عصرنا إطلاق الحكم على الموضوع من خلال الأشخاص. فالكلام أو الفعل مِن زيد هو الحكمة وبُعد النظر، لكنه نفسه من عبيد رعونة وسوء تصرف!. ولو اتعظنا بأحداث التاريخ لما قلنا إلا الحق. فهذا شخص افترى على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما كان أميرًا على الكوفة في خلافة الفاروق رضي الله عنه: أنه لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية... فدعا سعد عليه: اللهم إن كان كاذبًا فأعْمِ بصره، وأطل عمره، وعرّضه للفتن! فكان ذلك الرجل يمشي في الطريق، ويغمز الجواري، وقد سقط حاجباه من عينيه، فيُسأل عن ذلك فيقول: شيخ مفتون، أصابته دعوة سعد. وقال الفاروق رضي الله عنه لقاتل أخيه (وقد أسلم فيما بعد): اغرب عن وجهي، فإني لا أحبك! فسأله: أوَ يمنعني هذا حقي؟ قال: لا. فقال الرجل: إنما يبكى على الحب النساءُ. وأنا لا أتوقع أن يحبني كل الناس، فأنا بشر ولي أخطاء، لكني أطالبهم أن ينصفوني. جيء برجل إلى الوالي في وشاية فأمر بجلده، فصاح: هاؤم اقرأوا كتابيه! فقيل له: ويحك! هذا يقال يوم القيامة! فقال: عرضتم على الوالي سيئاتي، فهلا عرضتم معها حسناتي!. كلية الهندسة، جامعة الملك عبد العزيز