لأن جنون الفن كان أكثر تأثيرًا من أي ممارسة للتعاطي مع السياسة والحروب، بل ومع الفقر والاقتصاد، وصولاً إلى الكوارث الطبيعية وكل ما هو خارج المسرح الفني من انعكاسات تلقي بظلالها على مستقبل البشرية سلبًا وإيجابًا كانت هذه الصورة العجيبة في المشهد العام للشارع الأمريكي والعالمي أيضًا، ومعه كل وسائل الإعلام المختلفة في تأبين جنازة مغني البوب الأمريكي مايكل جاكسون، الذي استطاع أن يشغل العالم باستعراضاته المجنونة وبطقوس حياته بكل ما تحمله من سيرة ذاتية مليئة بالفضائح إلى حد الشذوذ الجنسي على مدى أكثر من 40 عامًا، ليبدأ الحدث الأكبر حين تم الإعلان عن وفاته، ومع الإعلان بدأ الكلام عن أسباب موته لتستمر التكهنات على مدى أسبوع كامل عن كيفية دفنه.. حتى إنه قيل إن وصيته كانت تتضمن مطالبته بأن يدفن فوق سطح القمر!! وهو ما نادت بعض وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت الأمريكية بتنفيذه من خلال وكالة الفضاء الأمريكية ناسا!! ليأتي مشهد مراسم دفن مايكل مذهلاً بكل المقاييس.. موكب مهيب من طوابير العربات التي يشاهد البعض منها للمرة الأولى، وحشد كبير من الحراسات الأمنية وإسناد لوجستي بلغت تكاليفه ما يزيد على 35 مليون دولار، إضافة لتكلفة التابوت التي وصلت إلى 25 ألف دولار!! كان جزء منه إنفاقًا حكوميًّا وآخر بواسطة التبرعات. حصل هذا الأخير في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تشهدها أمريكا بعيدًا عن الحدث، بل سار في "زفة الموت" قبل مراسم التأبين، حيث لم تكن قصة حياة الراقص الغنائي الأسطورة تغيب عن نشرات الأخبار التلفزيونية والصحافة اليومية لإيمانها بأهمية رجل أو نصف رجل يحظى برصيد من المعجبين الشباب والشابات الذين تشبعوا بتقليد فنه وأنواع ملابسه وتسريحة شعره التي تخدش الحياء، وآخر صرعات الموضة في ألوانها عند بيوت الأزياء العالمية. لقد مات الكثير من الرؤساء الأمريكيين العظماء الذين قدموا الكثير للأمة الأمريكية ومنهم من قدم حياته ثمنًا مثل جون كيندي الذي مهما كان الاختلاف حول اسباب اغتياله إلاَّ أنه كان نجمًا قياديًّا في تاريخ أمريكا، ومع ذلك لم يحظ هو أو غيره من قيادات البيت الأبيض بهذا المستوى من "التأبين" الذي حظي به "مايكل جاكسون". كما أن الأمر كذلك بالنسبة للعلماء ونجوم هوليود ومنهم "طوني كوين" الممثل الذي قدم للعرب أعظم قصة لنضال عمر المختار، ومع ذلك لم يحظ الأخير بأي اهتمام اعلامي عربي يصل إلى جزء من اهتمامه "بملك البوب"، أو خبر موت ديانا الذي احتل عناوين الصفحات الأولى في الصحف العربية! ربما لأن طوني كوين قد واجه كراهية في أمريكا لأنه قدم خدمة للعرب وبطبيعتنا كان لابد أن نتأثر إلى حد الإساءة لأنفسنا كما هو الحال في كثير من الجوانب الثقافية. وهنا أخرج من منصة الاحتجاج إلى دائرة السؤال: ألا يشكل مشهد موت جاكسون إحباطًا لدى الزعامات والرواد في صناعة التاريخ وفي كل المجالات السياسية والعلمية والثقافية؟ ثم أليس من حق هؤلاء أن "يبصقوا" على ثقافة أمة تقفز احتفاء بالشواذ من فوق القيم؟!