إن لله في خلقه شؤوناً ..وإن في صروف الدهر عظات وعبراً ، فقد اقتضت حكمته تعالى اختلاف أحوال الناس وتباين ظروفهم من حيث الغنى والفقر والمرض واليتم.. فالمتأمل في انقضاء ساعات اليوم بمباهجه وسروره في ظل النعماء التي يعيشها ويشاركه فيها كل من أصبح معافى في بدنه آمناً بين أهله مالكاً قوت يومه يرى أن عليه لزوم الشكر لله المنعم المتفضل ليزيده الشكر والحمد عليها زيادة ونماء وبركة وسعة .إلا أن الناس يختلفون في صور الحمد وبذله سواء في السراء أو عند الضراء ونزول البأس (حمانا الله وإياكم من كل ضراء) ولقد أحببت أن أنقل لكم صورة واقعية من صور الحمد التي يعيشها بعض الناس، عسى أن تذكر من نسيه منا بسبب ازدحام يومه بالمشغوليات واختناق أوقاته بالعديد من المسؤوليات ومتطلبات الحياة .. فقد فقدت (أم ابراهيم ) تلك السيدة المسنة نعمة البصر وتوالت عليها السنين وهي كفيفة فبناتها تزوجن وبعدن عنها وبعضهن صرن أرامل .. والولد الوحيد انشغل في حياته في موقع بعيد عنها وبقيت في مأوى خرب .. ماتت قبل أن تهنأ بالمسكن الذي خصصه لها أحد المحسنين كانت تتحدث قبل وفاتها بأسبوع لمذيع عبر برنامج فضائي عربي مشهور اسمه ( واحد من الناس ) عن حالها وأنها لا تريد شيئاً وكلما سألها مقدم البرنامج عن شئ تقول (الحمد لله) وكلما سألها هل تحتاجين شيئاً تجبه( الحمد لله) وإذا سألها من يصرف عليك قالت ربنا موجود (الحمد لله وما بينساش حد) وبطريقة تحس معها صدق الكلمة واطمئنانها . وفي الحلقة الثانية يوم الخميس الماضي أخبرنا مقدم البرنامج أن (أم إبراهيم) قد ماتت يرحمها الله تعالى ،فقد سبقت رحمة الله تعالى رحمة المحسنين من عباده حيث كان قد تبرع لها أحد المحسنين بشقة.. أسكنها الله فسيح جناته وجزى الله ذلك المحسن بما نوى وقدّم .. غير أن الذي جعلني أكتب هذا المقال هو مقدار وزن وثقل كلمة (الحمد لله) التي كانت تخرج من(أم إبراهيم ) يرحمها الله وجعلتني أحس في نفسي أنني لا أحسن قولها بنفس الثقل وعمق المعنى الذي قالته ..فإذا كانت قد قالت وهي على تلك الحالة (الحمد لله) بصدق وإخلاص،فماذا تركت لنا أن نقوله ونحن نرفل في الصحة والعافية والنعيم ومن الخير في المسكن والمأكل والمشرب والملبس ..الخ ؟! هل فقط نقول الحمد لله بألسنتنا أم حمداً مثل حمد (أم إبراهيم)؟ فيا ليت حمدنا لله تعالى يكون أكثر عمقاً وثناءً صادقاً لله على أنعمه التي تترى كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.. حقيقة لقد علمتني هذه المرأة الصادقة يرحمها بُعد ووزن وصدق (الحمد لله) فهي ربما لا تعرف (أن الحمد قيد النعم) وأن (الحمد لله تملأ الميزان) لكنها تعرف أنها خلقت للحمد في كل الأحوال .. وربما غيرها كثير في هذه الحياة ..لكن الأعجب من ذلك أنه في نفس البرنامج عرضت صورة أخرى لأم مسنة وكفيفة ولها إبنة أيضاً كفيفة مثلها وكبيرة في السن يسكنون في مسكن خرب .. أما الأغرب فإن الأم تحكي عن ابنتها أنها تطبخ لها الطعام وتشرف على نظافتها وتغسل ملابسها ( تغسل لي الجلابية كما قالت ) بينما الإبنة عندما سألها مقدم البرنامج كيف ذاك وأنت كفيفة؟ أجابت سبحان الله أنا اقوم على خدمتها واشتري لها اللحمة وأطبخ لها والحمد لله، فسبحان الله تقوم على رعاية أمها الكفيفة وهي كفيفة براً بها فسبحان الله له في خلقه شؤون ويحمدونه بصدق وإخلاص حتى في الضراء وينيبون إليه، فياليت أبنائنا وأجيالنا يعرفون قدر النعم التي لا تحصى ولا تعد التي نعيشها ويعيشونها ، وقدر وقيمة الشكر و(الحمد لله) . لقد حض الإسلام على الإحسان للفقير والمسكين والجار والقريب واليتيم والأرملة .فقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الساعي على الأرملة والمسكين ,كالمجاهد في سبيل الله " وأحسبه قال :وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر") متفق عليه ..فهو حديث شريف يوضح عظيم الأجر وجزيل الثواب للساعي على الأرملة والمسكين .. أما عن اليتيم فقد جاء عن سهل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ، وقرن بين إصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام) رواه أبو داود. وفي الختام عزيزي القارئ أتركك مع أعرابي فقير وقف على الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله حاجته قائلاً: يا عمرَ الخيرِ جُزيتَ الجنّةْ أُكسُ بُنَيّاتي وأُمّهُنّ وكُن لنا في ذا الزمانِ جُنّةْ أُقسِمُ باللهِ لَتَفعلَنّ فقال له الخليفة عمر: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال : إذاً أبا حَفصٍ لأَمضِيَنّ فقال له فإن مضَيتَ يكون ماذا؟ قال : واللهِ عنُهنّ لتُسألُنّ يومَ تكونُ الأُعطياتُ مِنَّةْ ومَوقِفُ المسؤولِ بينَهُنّ إما الى نارٍ وإما الى جنّةْ فبكى عمر حتى ابتلت لحيتُه ثم قال لغلامه (يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشِعره فإني واللهِ لا أملكُ غيره) جعلنا الله وإياكم من المحسنين ومن أهل الحمد في السراء والضراء، ومن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ..آمين .