أُصطلح على أن هناك في كل مجتمع صفوة أو وجهاء أو كما يسمونهم أحياناً أعياناً. وهؤلاء لم ينصبوا أنفسهم في يوم من الأيام على أنهم من هذه الفئة أو تلك ولكن نصبتهم أعمالهم وشخصياتهم وعلمهم وتجارتهم أحياناً ومناصبهم أحيانا أخرى. هؤلاء لم يرشحوا أنفسهم في يوم من الأيام لرئاسة نادٍ من الأندية أو جماعة أو هيئة أو قيادة لتعويضهم عن شيء فقدوه أو إحساس سُلب منهم ولكن رشحتهم مبادئهم وقيمهم ومشاعرهم تجاه الآخرين. عُرف عن هؤلاء الأعيان السماحة والتواضع والخلق الرفيع وسعة الصدر والاستقامة ولين الجانب، قادتهم إرادة الله أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. كانت مجالسهم مدارس وملتقى الكبير والصغير (دهاليز) مداخل بيوتهم مأوى للمساكين الذين لا يجدون مكاناً يؤويهم من حرارة الشمس وقيظ الصيف فترى دكاك جلسات مداخل بيوتهم استراحة للضعفاء والبائسين وصغار البائعين المتجولين الذين اتخذوا من الأرض لحافاً لهم ومن السماء غطاء. أمثال هؤلاء الأعيان جعلوا من بيوتهم مساحات لمجتمعهم، فكانوا بحق أصدقاء وأخلاء لهؤلاء الضعفاء والمساكين قدّموا لهم الماء والغذاء وفي الأعياد الكساء.. كنت تزور هؤلاء في مقاعدهم بجوار دهاليزهم فتجد من هذه الفئات الكثير يشاركونهم الحديث والعواطف والدعاء والآراء، حقاً إن هؤلاء الوجهاء أعمالهم وما قدموه جعلت منهم أسماء كبيرة وهامات عالية في رحاب حاراتهم وعند جيرانهم فكان هؤلاء الوجهاء في رمضان يصنعون لأولئك النزلاء الهاربين من قيظ الحرارة إلى برودة الساحات المنزلية طعاماً وموائد إفطار ويقدمون لهم أشهى وأفضل المأكولات الرمضانية، يأكلون معهم ويشربون يسألون عن مَن تَخلف من هؤلاء الفقراء عن الحضور لبيوتهم يزورون المريض ويساعدون المحتاج. هذه البيوت لازلت أذكرها وأذكر أهلها وأسماء من راودها من المستضعفين ولم تكتفي هذه البيوت بما يقدمه صاحبها بل كان لربة المنزل أيضاً دورها فترى في (المبيت) وهو أعلى مكان في البيت وعادة ما يتكون من غرفتين بمنافعها فتجد في كل ركن من هذه الغرفتين (بقشة) أو حقيبة تضم عدداً من الملابس فهذا الركن للحاجة حميدة وذاك للحاجة أسماء وآخر للست فلانة.. بمعنى أن هؤلاء الأهالي كانت بيوتهم مفتوحة لكل محتاج من الرجال والنساء يقومون بخدمتهم ورعايتهم والإحسان إليهم والصدقة عليهم.. فلم تغلق تلك البيوت أبوابها في وجه أي فقير أو محتاج أو مستضعف سواء عند الرجال أم النساء. ولذا عاشت مثل هذه البيوت في ستر ونعيم وصفاء ونقاء ووئام هم وأبنائهم فتعلم فيها الأبناء مالم يتعلموه في مدارسهم فبيوتهم تعتبر بحق مدارس رعاية وتعليم وتثقيف لأن أكثر هؤلاء المحتاجين كانوا من العلماء والمثقفين والمقرئين والمعلمين والتجار البسطاء فكل منهم يعلِّم الآخر ويفيد ويستفيد منه، من هنا برزت كلمة (بيوتات مكة) أو أعيان أو وجهاء لما يقدموه لغيرهم من الحب والعطف والحنان والرعاية. أما بعض وجهاء اليوم فحدِّث ولا حرج ينصبون أنفسهم بالوجاهة ولا يؤثرون على أنفسهم أحداً ولا يرغبون أن يزايد عليهم غيرهم، فمثل هذه الألقاب التي فرضوها على غيرهم ولم يلتزموا بمتطلباتها فبيوتهم مقفولة، وجيوبهم محكومة، وقلوبهم مأثورة ومفتورة على الماديات وأسلوبهم في الحياة كما يقول المثل العامي (عض قلبي ولا تعض رغيفي) هؤلاء لو احتاجهم الفقير يحيلونه للجمعيات الخيرية، وإذا احتاجه المسن يحيلونه لدور الرعاية، وإذا توسط لديه المحتاج اعتذر له ونصحه لأن يذهب بنفسه لقضاء حاجته. فلا نفعه ولا توسط له ولا ساعده ولا عطف عليه؟ وقد يزجره بحدة وغلظة أحياناً وسوء معاملة، هم يتزاحمون على المناصب والألقاب ويؤثرون أنفسهم ولا يؤثر عليهم أحد يقدمون لأنفسهم أكثر مما يقدمون لغيرهم. يستغلون وجاهتهم لأنفسهم دون غيرهم. والتكافل ذاب شكلاً ومعنى وحتى أسلوباً وهدفاً في مجتمعنا المعاصر كما استغل هذا المعنى لدى مدعي الزعامة والقيادة والوجاهة الاجتماعية لحاجة في نفس يعقوب أعرفها ويعرفها هؤلاء قبل غيرهم. رغم أن الفقر ازداد زيادة طولية وعرضية فأصبح مجتمعنا اليوم أكثر حاجة للتكافل والتعاطف الصحيح غير المزيف والمستغل للأدوار من قبل مدعي الوجاهة. هذا بلا شك يزيد من استغلال مدعي الوجاهة لمؤسسات المجتمع ويحط من أدوارهم وشخصياتهم ويقلل من وطنيتهم. فدعونا من استغلال المواقف وتحوير الحقائق وتزييف الأدوار.