لتعذرني غاليتي رشا، فاليوم هو 14 فبراير، يوم درجت عادة أهل هذه الديار إهداء من يحبون باقة ورد حمراء، وتعودت على تقديمها لك مع فنجان قهوة هذا الصباح مع تمنياتي لك بعمر طويل مديد كل أيامه حب و سعادة وهناء. وقد توقفت عند بائع الورود لأختار لك الورود الحمراء الأكثر نضارة، ووجدتها، وجمعت منها اثنتي عشرة وردة، وأخذت طريقي للصندوق لأسدد قيمتها ولتلف بورق شفاف وتحزم بشريط أحمر تغمره القلوب الصغيرة، وكان أمامي عند الصندوق العديد ممن سبقوني بالاختيار. وبينما أنا في الانتظار، أخذت أقلب نظري بين الورود التي اخترتها للتأكد من أنها جميعها على ذات الدرجة من النضارة. و لا أدري كيف اختلطت على ناظري الألوان لأرى في كل وردة بقعة دم لطفل ولطفلة غزاوية في عمر الورد قضيا نحبهما ضحية الاعتداء الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة ، هذا الاعتداء الذي حصد أرواح المئات من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ وترك الآلاف منهم في المستشفيات للعلاج، لا لذنب اقترفوه إلا لطلبهم رفع الحصار عن القطاع الذي فرضه المحتل الإسرائيلي ليقيد حركتهم ويقنن مصادر رزقهم، وليتلاعب بمصادر الطاقة فيعرض نزلاء المستشفيات للموت بقطعه عنها التيار الكهربائي . وكثيرا ما يقفل المعابر ليحول دون تزويدهم بأبسط متطلبات المعيشة وهو مكونات قرص الخبز. وأخذني شريط الأحداث المأساوية في رحلة ذكريات أحداث الستين سنة الأخيرة التي طغى خلالها شذاذ الآفاق من الصهاينة وتجبروا على شعب فلسطين وأمعنوا فيهم القتل بوحشية لإجبار الآخرين منهم على ترك بيوتهم ومزارعهم لليهود المهاجرين من مختلف أنحاء العالم، إلا قلة من الفلسطينيين تشبثت بالأرض والحجر فقبلت على مضض حمل الهوية الإسرائيلية إيمانا منها بأن الهوية الزرقاء لا تغير لون دمهم الأحمر القاني. كما أخذتني رحلة الذكريات إلى أنهر الدم التي سفكت في جنوب لبنان وفي العراق وأفغانستان في أشرس هجمة وحشية للغرب على الشرق تعيد للذاكرة هجمة الحروب الصليبية التي حصدت أرواح الملايين بدعوى حماية مهد السيد المسيح بينما هي من أجل نهب ثروات شعوب الأراضي المقدسة والتحكم بمركز العالم ، تماما كما يدعي الإسرائيليون اليوم بأنهم يعملون على إعادة بناء دولة كانت لهم قبل ميلاد السيد المسيح ، في حين أنهم يهدفون إلى التحكم بمركز العالم الجغرافي والاقتصادي ، وتناسوا أو عمدوا إلى التضليل بإغفالهم هوية يهود ذالك الزمن المتناهي في القدم، فأولئك من أبناء جزيرة العرب وبلاد الشام ، أقامها لهم الحاكم الروماني بومبي العظيم عندما سيطر على فلسطين عام 63 ق.م. وجعل منها مقاطعة رومانية يحكمها ملوك يهود ، وفي سنة 70 للميلاد قمع الإمبراطور الروماني تيتوس ثورة يهودية في فلسطين ، وسوى القدس بالأرض ودمر معبدها. وفي أعقاب ثورة يهودية أخرى ما بين 132م و135م شيد الإمبراطور هادريان مدينة وثنية جديدة على أنقاض القدس أطلق عليها اسم كولونيا ايليا كابوتاليا ، وحرم على اليهود دخولها . وبعد انتهاء عهد هادريان ، زاد باطراد عدد المسيحيين المقيمين في القدس . ومع اعتناق الإمبراطور قسطنطين الأول للمسيحية ، وزيارة أمه الملكة هيلانة للقدس سنة 320م ، بدأ طابع القدسوفلسطين المسيحي يغلب على طابعهما الوثني. وشيّد قسطنطين نفسه كنيسة القيامة ، ودأب خلفاؤه ولاسيما جستينيان على الإكثار من بناء الكنائس والنصب المسيحية في فلسطين . وسمح البيزنطيون لليهود بدخول القدس يوما واحدا في السنة فقط ، للبكاء قرب حجر كان لا يزال باقيا في موقع المعبد،وقبل ظهور الإسلام في القرن السابع ، كان قد حدث تمازج متصل بين المسيحيين في فلسطين والسكان العرب (الذين كان العديد منهم من المسيحيين أيضا) ، وبعد انتصار المسلمين في معركة أجنادين ، وفي عام 637 م تخلصت فلسطين ودرتها القدس من حكم البيزنطيين بالعهدة العمرية التي أعرب فيها الخليفة عمر بن الخطاب عن احترامه للمدينة بان تقبل بنفسه استسلامها، وكتب لهم وثيقة أعطاهم فيها أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم ، فمن خرج منها فهو آمن ومن أقام فهو آمن ، وكان الاسم العربي الذي أطلق على القدس هو البيت المقدّس ، كمقابل للبيت الحرام . وأصبحت ولاية فلسطين البيزنطية ولاية إدارية وعسكرية عربية أطلق عليها اسم جند فلسطين منذ ذاك. وينقطع شريط الذكريات في استغراب صاحبة محل الزهور لما كنت عليه من ذهول وسرحان، فما كان مني إلا أن أعدت الورود إلى مكانها وغادرت مسرعا إلى البيت لأحرر لك هذه الأسطر معتذرا عن باقة الورد لهذا العام على أمل تحسن الحال والأحوال في الأعياد المقبلة.