قديماً قالوا: «تحدث حتى أراك»... لكن المرء يمكنه تخمين شخصية مَن أمامه من دون أن يتكلم مما يحمله... أو يرتديه، فهناك علاقة ارتباطية بين هذه الأبعاد، ورابطة قوية بين ذات الفرد وجسده وامتدادات هذا الجسد من أشياء. قديماً كان الرجال يحملون ما يعبر عن مجتمعهم الذكوري، البدو يحملون السيوف، وأهل الريف في مصر والمشرق والمغرب يحملون الفأس أو المنجل، والنساء تخرج من بيوتها حاملة الجرار لتأتي بالماء من الآبار أو الأنهار، ترتدي المرأة زيها وتحمل ما يبرر خروجها لمن يراها في مجتمعات كانت تراقب جيداً حركة المرأة خارج الحيز الخاص. حمل الرجل خنجره أو سيفه دليل قوة ومكانة... ومازالت بعض البلاد مثل اليمن وسلطنة عمان تحمل بعضاً من هذا التراث وإن صارت «الجنبية» مدعاة للفخر بحسب قيمتها وزينتها لأنها فقدت وظيفتها الأصلية، أما النساء فيحملن الآن الحقائب، تتراوح بين الحقائب البسيطة أو الجوتشي و لويفيتون، ولم تعد وظيفة تدبير الاحتياجات الرئيسية للأسرة عبئاً عليهن كما في الماضي في المدن، وإن بقيت المرأة الريفية والمرأة البدوية تحمل ما تفرضه عليها ظروف البيئة، وليس من ثقافتها حمل الحقائب بل تحمل نقودها بين طيات ثيابها وليس للفقيرة أغراض تحملها في حقيبة نسوية، لكنها قد تحمل ثروتها في الحلي التي ترتديها، فالذهب كما يقول أهل العراق زينة وخزينة، فهي تحمل ثروتها البسيطة... خشية غدر الزمان. الرجال أيضاً حملوا الحقائب، كانت حقائبهم هي ما يحوي أغراضهم ويتدلى من جانبي الفرس أو الدابة، فليس هناك حاجة لحمل أي شيء على الكتف، وفي العصر الحديث كان حمل الحقيبة السمسونايت في مصر في السبعينيات دليل الانتماء لطبقة وسطى أو أن الشخص الذي يحملها عمل في أحد دول النفط حيث لم تكن متوافرة في مصر ساعتها. لكن ما تحويه حقائب النساء مختلف عن الأوراق في السمسونايت الرجالي، فهي قد تحمل علبة الماكياج وأدوات تصفيف شعرها وأوراقها الشخصية، وقد تضيف لها المصحف أو كتاب أو صور للأسرة، وغيرها من الأشياء التي تدل على شخصية المرأة. لي صديقة كانت تحمل في حقيبتها أدوات للحياكة لزوم إصلاح أحد الأزرار أو خياطة قطع مفاجيء في ذيل العباءة، وسكر ولعقة لزوم التجهز لو احتاجت لشرب شيء ولم يتوافر السكر، ومناديل معطرة لزوم الأولاد في المطاعم، وغيرها من الأشياء التي قد لا تخطر على بال، فكانت حقيبتها الكبيرة مثار تبادل المزاح وكنا نسميها حقيبة جحا. لكن «الحمل» ليس فقط للحقائب أو الأغراض، يسمي الإنجليز المرأة التي تصبغ وجهها بمستحضرات التجميل أنها «تحمل زينة»، والزينة عندنا تحملها النساء بدلاً من الحجاب أو مع الحجاب أو فوق الحجاب، ولم تعد العباءة السوداء أو الحجاب الذي ترتديه الفتيات الشابات ساتراً للزينة، بل تتفنن المرأة الآن في إبداء زينتها، فتجد وجهاً مرسوماً بعناية، أو حجاباً يشبه اللوحة الفنية، بل صارت عباءات المنقبات موشاة باللامع من النقوش اللافتة وأسماء «الماركات» حتى وإن أخفت الوجه، وبدلاً من حمل الثروة في الذهب الذي ترتديه صار هناك أكثر من وسيلة للمباهاة بالغنى، من الساعة الثمينة المرصعة بالألماس إلى السيارة التي تحمل المرأة وتتجول بها في الشوارع والأسواق. الرجال أيضاً صاروا يحملون ما يدل على الثروة، بالسيف والخنجر تم استبدال الهاتف النقال المعلق في الحزام مكان الخنجر القديم والساعة المرصعة أيضاً بالألماس (فالذهب حرام!)، ولا ينسى أحدهم أن يحمل قلمه المونت بلان لزوم (وباقي منتجاتها)، وما شابه. الشباب يحملون حقائبهم على ظهورهم، وهي حقائب ملونة زاهية، أما بنات اليوم فيحملن اللابتوب ويتفاخرن بأنهن يحملن أسماء ماركات الملابس الرياضية على الحقائب والملابس والأحذية. ويضعون فيها ما يلي: الآي بود لزوم ثقافة الأغاني التي صارت منهج حياة فلا يستقيم لأحدهم لسان بالعربية، والكاميرا الديجيتال لزوم تصوير اللحظات السعيدة (و"تحميلها"على موقع فليكر للصور أو على الفيس بوك - طبعاً، والموبايل (الذي «يحمل» الكلمة السرية لزوم الخصوصية). المرأة المكافحة تحمل في أحيان كثيرة أكياساً، أكياس التسوق وشراء احتياجات المنزل... تراها في شوارع المدن الكبرى تتحرك بها في طريقها لبيت هي عموده...، والرجل الذي يناضل من أجل لقمة العيش يحمل في طريق عودته للمنزل فاكهة لأبناء ينتظرونه كي يأكلون... طلاب الجامعة كانوا يحملون الكتب، لكنهم الآن لم يعودوا يحملونها، فالكثير من مواد الدراسة يقتنصونها من على شبكة الإنترنت، وبعضهم يشتري الكتاب الجامعي ولا يفتحه أبداً لهذا السبب، فصاروا يحملون الموبايل ويدخلون المحاضرات بدون كراسات، معظمهم يقضي بعض الوقت في كتابة رسائل بدلاً من كتابة ملاحظات المحاضرة أو قد تبلغ به الجرأة أن يطلب الخروج لدقائق للرد على الهاتف وكأنه رئيس الوزراء وليس طالب في عامه الجامعي الأول. الناس هذه الأيام أيضاً صاروا يحملون شيئاً عجيباً: الرنات، تجلس في عزاء فتفاجؤك نانسي عجرم أوهيفاء بصوتها يخترق المكان فيسكته صاحب الموبايل فعلى عجل ويرسل لمن حوله نظرة اعتذار، وقد يكون رجلاً محترماً قد بلغ من الكبر عتياً، أو يخترق فضاء مدرج المحاضرة صوت تامر حسني صارخاً «يا بنت الإيه» فيغلق الصوت طابة محجبة تبدو عليها سيما الهدوء والرصانة، فلا أفهم... لا أفهم مطلقاً! ويحمل آخرون صوت الأذان أو صوت شيخهم المفضل... كلها أحمال واختيارات ولافتات تقول ها أنا ذا. لكن هناك بشر آخرون لا يحملون الهواتف النقالة ولا يعبأون بموسيقى الآي بود، لا يهمهم لباس الشهرة ولا ساعات الشهرة ولا أقلام الشهرة، لا يبالي رجالهم بالثمين من الثياب، ولا نساءهم بالفاخر من العطور بل يحملون شيئاً واحداً... يحملون القضية... وتحيطهم رائحة الموت. هناك في غزة لا تحمل النساء في حقائبهن أدوات التجميل، بل صور الشهداء من الأبناء والأزواج، ولا تحمل الشوارع ذكريات الأيام بل رائحة الموت، يحملون فوق جباههم نور العزة... ونحمل نحن عبء الخجل والعار. البعض منا يحمل الريموت يقلب القنوات ويأسى، والبعض يحمل الصناديق يضعها على شاحنات متجهة إلى معبر رفح لأنه لا يملك هو عبوره، والبعض يحمل صور أطفال اخترقت صدورهم رصاصات الوحشية في مظاهرة أمام تلك السفارة أو تلك، في تلك العاصمة أو تلك. وبعض آخر يحمل مكبر الصوت، أو يحمله مكبر الصوت، تحمله الشاشة ممتطياً جواد عنتريته الخشبي، أو حاملاً دفتر الشيكات... موقعاً بالقلم: المون بلان... من أجل القضية... ودعم النضال. حذرنا القرآن من الذين يحملون العلم كما يحمل الحمار أسفاراً، وأعلن أنه «خاب من حمل ظلماً».. وأنبأنا عن الذين تولوا أمور الناس فلم يحملوها، وعن الذين «يحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم»... وقال تعالى: «وساء لهم يوم القيامة حِملاً». قل لي ماذا تحمل... أقل لك من أنت! الوسط البحرينية