ذات يوم سيطلق في التقاويم الأمريكية على عام 2009 اسم عام الانتحار، ففي أول شهر من هذا العام انتحر في العراق وأفغانستان أربعة وعشرون عسكرياً أمريكياً، أما عدد المنتحرين نفسياً ومعنوياً فهم أضعاف هذا الرقم. عام الانتحار هذا سيدرج في خانة الأعوام العجاف أمريكياً، تماماً كما هو العام 1929 والعام 1963 والعام 2003 فهي أعوام اقترنت بحالات من التدهور السياسي والاقتصادي والأخلاقي أيضاً، وبالطبع لا ننسى عام 1968 فثورة ايار التي عصفت بالعالم في ذلك العام كان منظِّروها وقادتها أمريكيين، بدءاً من هربرت ماركيوز وجيري روبين وهوتشنر حتى تلك الفتاة التي أطلقت عليها النيران في عقر الجامعة وأمام حشد من زملائها. لماذا ينتحرون؟ هذا السؤال لا تجيب عنه التقارير الأمريكية، وإن أجابت فعلى نحو سطحي يلوي أعناق الحقائق تماماً مثلما لويت أعناق التقارير حول تسلح العراق. ينتحرون لأنهم يجدون أنفسهم وقد حملوا على الطائرات والسفن الحربية من بلاد نائية وقد قطعوا محيطات ليموتوا بلا قضية. فهؤلاء الجنود لا تحركهم عقيدة عسكرية، أو إحساس بأنهم يدافعون عن وطنهم، فهم يدركون جيداً أنهم محتلون، وأن معظمهم لا ناقة له ولا جمل في هذه الحملة العسكرية، التي ظن من قادوها أنها مجرد نزهة في المياه الدافئة وتحت شمس آسيوية تمنح جلودهم البيضاء لوناً برونزياً، بالرغم من معرفتنا بأن هناك من لا يحتاجون الى هذا لأنهم سود أو ملونون وقد تولت شركات من طراز بلاك ووتر توريطهم في هذا المستنقع. والانتحار على الطريقة الأمريكية لا يمكن التعامل معه بالأرقام الصماء فقط، فانتحار كاتب مثل همنجوي لم يكن للأسباب ذاتها التي دفعت أربعة وعشرين عسكرياً الى الانتحار في شهر واحد هو شهر كانون ثاني من هذا العام. كان لهمنجوي أسبابه الوجودية، مثلما كان لمارلين مونرو أسبابها أيضاً، لكن هؤلاء الجنود ينتحرون لسبب واحد متكرر هو الفراغ الفكري وحالة العدمية التي يجدون أنفسهم غارقين فيها. إنهم يتساءلون لماذا هم هنا؟ وماذا لديهم في بغداد أو كابول أو في مياه الخليج، ثم لا يعثرون على جواب، مما يضطرهم الى إنهاء هذه الدراما بوضع حد لحياتهم. لقد تنبه الجنرال جياب في الحرب الفيتنامية الى هذه العدمية الأمريكية، لهذا طالب الجنرال الأمريكي مورلاند بأن يضيف الى حمولة الجنود فأساً كي يحفروا قبورهم، لأنه ما من وقت فائض لمن يدافعون عن وطنهم لذلك. لا يستطيع الجنرالات في واشنطن أن يضيفوا هذا العدد من القتلى الى قائمة من سمتهم العسكرتاريا الأمريكية قتلى بنيران صديقة، إنهم قتلى بنيرانهم الشخصية، وببنادقهم، فقد استبد بهم اليأس وأصبح قنوطاً فالحرب لا نهاية لها، وكان مشهد تبادل الأنخاب في حفلة انتهائها التنكرية مثيراً للغثيان لدى هؤلاء الجنود. إن والد أحدهم حمل ذات يوم يافطة وسار فيها عبر الشوارع في نيويورك، وهي مملوءة بإشارات الاستفهام والتعجب.. كان يسأل رئيسه وإدارته لماذا يفقد ابنه الوحيد في حرب لا تعنيه لأنها ليست حربه، بل هي حرب تجار السلاح وشركات السخرة،. إن ما يجب تسجيله في هذا السياق هو أن الجيش الأمريكي خارج بلاده ودّع الرئيس بوش وطاقمه بأربعة وعشرين انتحاراً خلال شهر واحد. القدس