من بين أخطاء ومثالب الفكر العربي قديما وحديثا الجنوح إلى المبالغة بالتهوين أو التهويل إزاء قضايا لا تحتمل مثل هذا الخلل العقلي الذي قد يكون بالامكان قبوله في الشعر واللغة والرومانسية، ولكنه لا يصح ولا يجوز مع السياسة والاقتصاد، وجميع ما يندرج تحت بنود المنظومة الاستراتيجية لأي أمة. وعلي سبيل المثال لعلنا نتذكر أننا عشنا سنوات طوالا نتعامل مع الدولة العبرية والخطر الصهيوني بمنهج التهوين، فهي الدولة المزعومة التي يمكن شطبها من على الخريطة بجرة قلم.. وهم مجرد نقطة في بحر المحيط العربي الكبير.. و.. و.. حتى وقعت نكسة يونيو1967، فإذا بالفكر العربي يتحول لأكثر من180 درجة كاملة لتصبح إسرائيل هي القوة التي لاتقهر، وأن كل ما بها من بشر وآلات وعدد يكاد يقترب من حد الأسطورة التي تفوق الخيال. وبرغم أن حرب أكتوبر 1973 قد بددت كثيرا من هذه الأوهام على امتداد العالم.. بل في داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، إلا أن بعض المفكرين العرب بوعي أو بغير وعي مازالوا يدقون على وتر الأسطورة الإسرائيلية وحتمية التعامل مع إسرائيل على أساس أن التكافؤ العربي معها مستحيل، وأن مقومات استمرار التفوق لصالحها سوف تستمر إلى ما لا نهاية! وقد بلغ السفه ببعض من يتصدرون منابر الفكر والثقافة والسياسة في العالم العربي حد تصوير إسرائيل وكأنها القوة الخفية التي تستطيع أن تقتحم علينا بيوتنا بغير استئذان، وأن تتسلل إلي مخادعنا لتعرف أدق الأسرار، فهي وراء كل مصيبة تقع حتي لو كانت جريمة تصادم بفعل القضاء والقدر، وهي التي تنشر الدعارة والرذيلة وجميع الأمراض الخبيثة عن عمد وقصد، وهي التي تلوث مياه البحر والنهر وتنتج في معاملها البيولوجية جراثيم وميكروبات تحرق الزرع وتسمم البشر. ومن أسف أن بعض الذين يقولون بذلك يغطون رؤوسهم بقبعات الوطنية ويبالغون في إظهار عدائهم للدولة الغاصبة المعتدية، ويتناسون أنهم يقدمون لإسرائيل أفضل خدمة بأقل ثمن، لأنهم يزرعون في النفس العربية خوفا بغير مبرر ويضخمون في قوة إسرائيل لأبعد مما يحلم صقورها ودهاقنة التطرف المتغلغلون في مفاصل وجنبات مناطق صناعة القرار في الدولة العبرية. وكل من يعمل بالسياسة يعلم علم اليقين واستنادا إلى دروس التاريخ قديما وحديثا أنه في قواعد الحساب السياسي لاتنبئ ظواهر الأشياء بحقيقة الميزان الاستراتيجي الصحيح، فليس الطرف الأقوي عسكريا هو المنتصر بالضرورة ولا هو وحده الذي يملك أن يفرض كلمته النهائية في أي صراع! تلك بديهية يؤمن بها العارفون جيدا لقواعد الحساب السياسي والاستراتيجي.. وهي قواعد تتخطي حدود وأرقام التفوق العسكري والغطاء السياسي والخبرة التكنولوجية وسائر مفردات التفوق المعروفة. عن الاهرام