بقلم د. خلود بنت عبد الله النازل رحلت تلك المسنّة، التي تتفتق روحها شبابًا، ويتفتّق وجهها ابتسامًا! رحلت كريمة الأصل، عذبة السجايا.. إنّها صديقة الغالية أمي.. كنت أزورها في طفولتي كلّ وقت؛ فأجد بابها مفتوحًا مثل قلبها الأبيض، لم تغلق بابها يومًا دوننا، لم تزجرنا، أو تغضب منّا حين نعبث ببيتها المنظم، ونرمي ألعابنا في كلّ زوايا الدار. كنت أزورها وقت الضحى؛ فأجدها في باحة الدار تجلس وشاي الضحى، تؤدّي بعض أعمالها المنزلية كتقطيع الملوخية أو الخضار، فترمقني بابتسامة المحبّ، صوت قلبها يقول لي: أهلًا وسهلًا، فأفهم ببراءة الطفولة معاني الترحيب، وأنطلق لألعب مع بناتها الصديقات. وأعود لزيارتها وقت العصر؛ فأجدها تنتظرنا ووالدتي، وقد أعدت القهوة والشاي والمكسرات، والمجلس يرسم حال الكريم المحبّ، فنمضي في بيتها ساعات الهناء؛ لأنّ كلّ ما في البيت متاح لنا دون قيود! يا لقلبك يا أمّ عبد المجيد! كنتُ أتفرّس في ملامح العجائز، بل النساء الأربعينيّات في ذلك الوقت، ولم أرَ مثل صفحة وجهك البسّام، الذي لا يعرف التقطيب أو العبوس؛ لقد كان القلب بسامًا فأشرقت ابتسامته نورًا يضيء وجهك! كنت أجوب بيوت الحارة شأن الأطفال في ذلك الوقت؛ فأجد الأبواب موصدة غير بابك، فبابك ومطبخك وموقدك وكوب الشاي من يدك وخبز الصاج الذي تصنعين، كلّها ذات وقع في قلبي.. كنت أمًا ثانية وقلبًا حانيًا، وامرأة لم تهزمها الأيّام. اليوم رحلتِ، وتركتِ أثرًا خالدًا، لم تكتبي كتابًا، أو تمتهني مهنة، لكنّك تركتِ مجدًا من الأخلاق التي لا تهدم؛ لعلّها أرفع من أمجاد الكثيرين! لم تتعمدي إيذاء أحد.. لم تهمزي الجالسين بمرارة حرفك.. لم تمنعي أحدًا ما تملك يدك.. كنتِ سيلًا يغرقنا حبًا وعطاء ومرحًا.. ما أنس لا أنس ضحكاتنا تتعالى في فناء بيتك، ونحن نتبادل أحاديث السمر صيف شتاء، ولن أنسى ما حييت كلّ ما امتدت به يد عجوز معطاءة ليد طفلة صغيرة، فلم يقع في يدي، إنّما وقع في قلبي.. وها هي تلك الطفلة تكبر، وتؤدي أوّل حقوقك حين تكتب هذه الحروف بدموع الفقد، وكيف لا أبكيك وطالما أسعدتِ قلبي؟ كيف لا يحزن مثلي على مثلك؟ أنتِ علّمتني درسًا عظيمًا، وهو الاستثمار في قلوب الأطفال؛ فهؤلاء الصغار سيكبرون يومًا ويتذكّرون جيدًا من أسعدهم، ومن أعطاهم، ومن ابتسم لهم.. وسيذكرون أيضًا من أساء ومن زجر ومن عنّف... فلنستثمر في القلوب قبل الرحيل؛ فهي أغلى الأرصدة... كلّنا راحلون! رحمك الله يا أمّ عبد المجيد، وجعلك في نور وسرور إلى يوم يبعثون، وموتانا وموتى المسلمين!