لا يمنعني شيء من أن أقول:إن المملكة العربية السعودية دولة أوجدها الله تعالى من عدم ؛ التاريخُ والجغرافيا وعلم الاجتماع والسياسة كلها تشهد بذلك ،والنظر الثاقب يؤكد:أن ظروف نشأتها لم تكن مناسبة للنجاح في تكوين دولة ؛ وكلُ مراحل التكوين وما مر فيها من أحداث جسام تجاوزها المؤسس رحمه الله منتصراً ،كالشنانة وروضة مهنا وضم الأحساء وحائل والحجاز ، تؤكد أن الأسباب القدرية الغيبية كالإخلاص لله وقصد إقامة الدين والإيمان والتقوى فيثيب سبحانه عليها بالتمكين الإلهي ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾ [النور: 55] وكذا إرادة الحكيم عز وجل عِزَّ الحرمين وحفظ جناب التوحيد ورفعةَ شعب الجزيرة الذي لم ينعم بالاستقرار والعزة من بعد الدولة الأموية إلا مع بداية الحكم السعودي في أطواره الثلاثة ؛ هذه الأسباب القدرية الغيبية يدرك كلُّ متدبر في تاريخ تكوين الدولة أنها كانت أقوى حضوراً من الأسباب المادية الحسِّيَة التي لم يكن عبدالعزيز يمتلك منها إلا القليل ؛ وكان أكثرُ خصومه أقوى منه امتلاكاً لهذه الأسباب من عُدَّةٍ وعتادٍ وبيئةٍ قتالية وأنصار . والأسبابُ جميعُها ، غيبيةً كانت أم حسية ، يلزم من وجودها الوجود كما يلزم من عدمها العدم ؛ فأي نوعٍ من الأسباب يقوم عليه تفوق علمي أو عملي أو حضارة أو دولة فبقاؤه مرهون ببقاءِ سببه ، وانعدامُ سببه سبب لانعدامه . هذه القاعدة الحتمية كانت حاضرة في ذهن المؤسس وأبنائه من بعده ، لذلك لم تثنهم أي ضغوط دولية عن العمل بالشريعة في جميع جوانب الحياة ،والتصريحِ المستمر في كل المحافل الدولية بأنها مصدر التشريع في هذه البلاد ، وقد كان ذلك حائلاً دون انضمامها إلى بعض الاتفاقيات والمنظمات الدولية، كمنظمة التجارة العالمية التي تقدمت السعودية بطلب عضويتها عام1393ه ولم تتم الموافقة عليه إلا عام 1426ه أي بعد ثلاثة وثلاثين عاما، ومن أسباب هذا التأخير ثباتُ موقف الدولة المتحفظ على كل ما يخالف الشريعة من قوانين، وتم مؤخراً رضوخُ الدول الأعضاء للتحفظات السعودية لتصبح العضو رقم 149 ؛ وظلت الدولة وعلماء الشريعة فيها في وِئام وانسجامٍ تامين يعرف كل منهما فضل الآخر ، فالعلماء يسمعون ويطيعون ويحضون الناس على لزوم الجماعة ؛ والقيادةُ بدورها تستجيب لنصح العلماء وتستشيرهم فيما يتطلب رأي الشرع فيه ؛ ولا ينفك ولي الأمر عن تقريبهم ومداومة الالتقاء بهم وإنزال رأيهم منزلته من الاعتبار . وأنشأت الدولة أعلى وثيقة دستورية تربط جميع أنظمتها بالشريعة الإسلامية في أكثر من عشرين مادة من موادها النائفة على الثمانين. وكان من نتائج ذلك شيوع الطمأنينة على أمور الدين والدنيا بين الناس وثقة الجميع في كل ما تقدمه الدولة وما تقرره ،وفخر واعتزاز عظيمان بالانتماء لهذا الوطن يربي عليه الآباءُ الأبناءَ حتى أصبح من الدعاء إلى الله المألوف بين الناسالله يعز ابن سعود. وقد تميز العلماء إذ ذاك في سلوكهم مع القيادة بأمور منها: -الواقعية، فلا يكلفون الدولة مايعلمون أن ظروف الحال والمآل تحول دونه أو تجعله عسيراً. -حسن الظن بالقيادة فيعلمون أن مقصدها الخير وإن اختلفوا معها ويلتمسون لها العذر فيما يخالفونها فيه. -التحقق فيما يَرِدُهُم والبعد عن إصدار الأحكام والآراء في قرارات الدولة وسياساتها قبل التبين. -العدل مع الحكام ، فكما يناصحونهم في الأخطاء يثنون عليهم فيما ينجزونه من الصواب -الإسرار بالنصيحة لتقع موقعها من القبول والعمل. ولايزال هذا هو الحال في بلادنا بين العلماء والحكام ؛ إلا أنه ظهرت ناشئة من الدعاة تأثروا بمناهج بعض الحركات الإسلامية فسلكوا مسلكاً مغايراً لمنهج العلماء الراسخين ؛ فكانوا حالمين في مطالباتهم ، يُغَلِّبُون سوء الظن في سياسات الدولة وقراراتها،متهافتين على الشائعات ، يعتنون بتضخيم النقائص والمثالب موجهين خطابهم نحو الجماهير ؛ وقد أسهم هؤلاء بتأسيس خطاب ديني تعبوي ضد الدولة لم يكن موجودا من قبل إلا عند فئات يسيرة من الجهلة وقبل ذلك لدى القوميين والماركسيين ، أما طلبة العلم الشرعي فكان هذا الخطاب جديداً فيهم ؛ والحقيقة أن نتائجه كانت شديدة السوء ؛ فمنها: أنها أسهمت في عزل بعض الشباب عن منهج العلماء الراسخين وشحن قلوبهم ضد الدولة وضد أهل العلم مما جعلهم فريسة سهلة للفكر التكفيري مع أن غالب أولئك الدعاة لم يكونوا تكفيريين ومنهم من كان له مواقف في نقد الفكر التكفيري ؛لكن الشقاق له بذرة وشجرة وثمرة؛ كما كان من نتائجه تشديد الضوابط والتنظيمات على النشاط الدعوي والإغاثي والشبابي والذي كان قبل ذلك متاحاً بشكل لا نظير له؛ إلا أن استغلال هذه السماحة في النظام لتكثيف الخطاب التعبوي اضطر الدولة لتكثيف تلك الضوابط ؛كما كان من نتائجه إضعاف ثقة بعض الأجهزة الحكومية في كثير من الناشطين في العمل الإسلامي والدعوي وكان لدى هذه الأجهزة من الوقائع ما تتكئ عليه لتبرير توجساتها التي استغلها عدد من ناشطي أدعياء الفكر الليبرالي لمحاولة تشويه العمل الدعوي بأسره والتوجه السلفي على وجه الخصوص ،بل وصل التجني بهم إلى القدح في مؤسسات الدولة الدينية والنشاطات التربوية وقد عملوا بذلك على زيادة الفجوة بين أجهزة الدولة وكثير من الناشطين الإسلاميين بل وتشويه صورة الدولة أمام شعبها وأمام العالم الإسلامي فلم يكن التيار الليبرالي الناعم مختلفا عن التيار الإسلامي الحركي في أثره السيء على الانسجام العام وإن اختلفا في الأسلوب والمنطلقات . واليوم وبعد مضي ثلاثة عقود لا يزال أثر ذلك الخطاب التعبوي السلبي قائماً على فئة كثيفة من الشباب بالرغم من أن بعض مؤسسي ذلك الخطاب قد هدَّأ من لهجته أو تراجع عن موقفه لصالح المنهج العُلَمَائِي الأصيل أو الخطاب الوطني ؛ لكن تلك التهدئة أو ذلك التراجع لم يؤثرا إيجاباً بالشكل المطلوب ؛ فقد بقيت روح الشك في الدولة وتجاهل حسناتها وتعظيم وإشاعة أخطائها حاضرة في الخطاب المنسوب إلى الدعوة والصحوة ؛ وقد تجلى خطره في ظل الظروف الدولية التي ظهر جلياً فيها:أن هناك مؤامرة تهدد وحدتنا وبقاءنا ، وأن الخطاب الإسلامي المتحمس قد بدأت بعض الجهات الدولية العدوة في توظيفه ليخدم مؤامراتها . وقدأسهم في بقاء ذلك الخطاب وآثاره السيئة عاملان، الأول: رداءة إعلام الدولة أو الإعلام المحسوب عليها وعدم وعيه بحقيقة ما يجري وما ينبغي أن يقول وما هي الرسائل التي يجب أن يُقِرَّها في الضمير الشعبي ؛ بل اشتغل بفجاجة تامة في إرسال رسائل مناقضة لما ينبغي أن يكون وما عليه حقيقة توجه الدولة الأمر الذي زاد من اتساع الخرق على الراقع . العامل الآخر:أن الدعاة الذين اعتدلت مواقفهم لم يُظهروا ذلك بشكل قوي يكافئ قوة الأزمة ويساوي قوة خطابهم السابق في مواجهة الدولة . المهم أننا اليوم وفي ظل الحرب الإعلامية على بلادنا وأيضا في ظل المشاريع العالمية التي تهدف إلى إضعافنا وتقسيمنا وإسقاطنا في أمس الحاجة إلى أمور ينبغي أن لا تغيب عنا قادةً ومواطنين : الأول: العودة بقلوبنا وأبداننا إلى ما مكن الله لهذه الدولة من أجله وهو ما تقدم الحديث عنه من الأسباب القدرية الغيبية من تمكين الدين والإيمان والإخلاص لقول الله تعالى﴿ وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم ثُمَّ لا يَكونوا أَمثالَكُم﴾ [محمد: 38] وكما أن الخطاب في الآية ليس موجها لفئة من المؤمنين دون أخرى ، فليست المسؤولية في العودة إلى الله مقتصرة على الدولة أو مقتصرة على المجتمع بل الجميع مسؤول إمام الله ثم أمام عباده . الثاني:ثبات الدولة والعلماء على المنهج الأصيل في العلاقة بينهما والذي أوضحتُه أولَ هذا المقال. الثالث:اتخاذ النظام الأساسي للحكم نبراساً يُستَضَاء به في كل ما يصدر من أنظمة أو تنظيمات أو نشاطات حكومية أو اجتماعية. الرابع:التزام النخب من أصحاب القلم واللسان من مثقفين ودعاة وإعلاميين بمنهج النقد العادل وتقبل أجهزة الدولة لهذا النقد بروح المستفيد ، وتصحيح مسار الإعلام الذي من واجبه أن يكون إعلاما للأمة لا إعلاماً لفريق بعينه . د.محمد بن إبراهيم السعيدي