يدرك جيدا من يستمع لتبريرات عديد من الأطراف، سواء تلك التي تتصدى لإجراءات توطين الوظائف في منشآت القطاع الخاص، أو الأخرى التي تقاوم ضرورة تصحيح الأسعار المتضخمة في سوق العقار، والقضاء على مختلف أشكال الاحتكار والمضاربة في السوق، أؤكد أنه يدرك القصور الشديد لحجتها، وضيق أفقها تجاه المصلحة الأكبر للاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء. الجيد في الأمر؛ أن القيادات والعاملين خلف سياسات وإجراءات الإسراع بتوطين الوظائف في القطاع الخاص، والعمل على خفض معدلات البطالة بين صفوف المواطنين والمواطنات، تحديدا فئات الشباب منهم، وفي مجال محاربة احتكار الأراضي والمضاربة عليها، وتسوية آثام لا آثار تلك الممارسات الضارة اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، أقول إنهم أحسنوا صنعا بعدم الالتفات إلى تلك التبريرات الواهية، وأخذها على محمل الجد من قبلهم أثناء تسيير جهود وبرامج التوطين والإسكان، وإن كانت جهود الإسكان لا تزال تسير بسرعة أقل من جهود التوطين حتى تاريخه، التي يؤمل أن تتحسن في القريب العاجل، وتتحرك بالسرعة الكافية والمتزامنة مع بقية جهود أغلب الأجهزة الحكومية الأخرى. تبقى مقارعة تلك التبريرات أو الحجج الواهية في ميدان الرأي والإعلام، وهو أهون الأمور وأقلها تعقيدا، إلا أنه الأهم بالنسبة لدائرة الوعي المجتمعي، لدوره الرئيس في تفتيت خيوط العنكبوت التي يحاول ناسجوها، تشتيت الانتباه عن الوعثاء الهائلة التي تغوص فيها كل من سوقي العمل المحلية والعقار. انطلقت بالنسبة لسوق العمل المحلية، من تهويل آثار تصحيح أوضاع العمالة الوافدة في سوق العمل، وتهديدها استقرار منشآت القطاع الخاص إلى درجة قد تصل إلى توقف نشاطاتها وإفلاسها، وتمادت كثيرا في تثبيط عزائم الباحثين عن العمل من المواطنين والمواطنات، تارة بعدم توافر المؤهلات والخبرات اللازمة، وتارة أخرى بانخفاض الإنتاجية والتسيب في أداء الأعمال، في الوقت ذاته الذي أصبحت خفايا منشآت القطاع الخاص ظاهرة للجميع، لعل من أهم تلك الخفايا انخفاض مستويات تعليم أغلب شرائح العمالة الوافدة لدى تلك المنشآت، حيث تجاوزت نسبة من يحمل الشهادة المتوسطة منهم فما دون 90 في المائة، مقابل ارتفاع نسبة حملة الشهادة الجامعية إلى 51.7 في المائة من إجمالي الباحثين عن عمل من المواطنين والمواطنات البالغ عددهم وفقا لأحدث بيانات رسمية 1.1 مليون مواطن ومواطنة. عدا الحقائق الأخرى التي كشفت ضعف إسهام تلك المنشآت في تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، والزيادة المفرطة في اعتمادها على الإنفاق الحكومي الرأسمالي، وزيادة الاستيراد من الخارج بالجملة والبيع بالتجزئة في الداخل، أفضى في نهاية الأمر إلى إثبات أن القطاع الخاص هو في الحقيقة الأدنى كفاءة وإنتاجية من استيعاب الباحثين المؤهلين علميا وعمليا عن العمل، وأن المواقع الوظيفية العليا في القطاع الخاص والمناسبة لتوظيف المواطنين مشغولة بأعلى من 38.5 في المائة منها بالعمالة الوافدة، ما يعني أن صناعة القرار في منشآت القطاع الخاص بيد العمالة الوافدة لا بيد ملاكها. هنا؛ وفي كثير من المواجهات مع مصادر الحجج الواهية المضادة للتوطين، تجده سليما جدا سقوطها المدوي في ميزان الحجة بالحجة، وأن استمرار تصديق أي من تلك الحجج، لا يعني إلا استمرار الإدمان على العمالة الوافدة، وتهميش العمالة الوطنية، وسد نوافذ الفرص أمامها في السوق، والسماح بارتفاع معدلات البطالة، وهذا ما لا يمكن حدوثه أو السماح به من قريب أو بعيد، وأن على منشآت القطاع الخاص وملاكها من التجار ورجال الأعمال، استيعاب هذه الحقيقة كما هي، وأن الحرص على تحقيق المصلحة الأكبر لضمان الأمن الاجتماعي والاقتصادي للبلاد والعباد، أعلى بكثير ودون مقارنة من المصالح الضيقة لعديد من تلك المنشآت وملاكها، التي لا تتجاوز في غالب الأحوال هوامش الأرباح! أما على مستوى سوق العقار، فلا تعجب إذا وجدت أن ما تقدم من حجج لأرباب الأعمال ومنشآت القطاع الخاص، تكاد لا تذكر أمام حجج وتبريرات الناشطين احتكارا ومضاربة وسمسرة في سوق العقار. هنا ستجد من يدافع بقوة عن تضخم أسعار الأراضي والعقارات والإيجارات، دون النظر إلى أن تلك الأسعار المجنونة وصلت إلى ما وصلت إليه عبر طريق وعر من التشوهات الهيكلية الخطيرة، وأن القضاء على تلك التشوهات من نتائجه أن تنهار تلك الأسعار غير المقبولة، وتعود إلى مستوياتها العادلة سعريا، التي لا تلحق أضرارا جسمية بالاقتصاد والمجتمع، تأكدت مؤشراتها للجميع دون استثناء، تأكدت عبر ارتفاع تكلفة الإنتاج والتشغيل على كاهل القطاع الخاص، الذي كما تم انتقاده أعلاه، يتجب الوقوف معه في هذا السياق بعدالة، وتسليط الضوء على ما واجهه من صعوبات جسيمة، أفضت إلى ارتفاع تكلفة الأراضي والعقارات والإيجارات على كاهله. وتأكدت تلك الأضرار الجسمية على كاهل أفراد المجتمع، الذين ارتفعت عليهم تكلفة المعيشة بشكل عام، كان المغذي الأكبر لارتفاعها تضخم أسعار الأراضي والعقارات والإيجارات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد! بل سبقه بمعنى أدق، تورط المواطنين في أزمة الإسكان، تزامنت مع تورطهم في ديون مصرفية طائلة، تمتد فترات سدادها إلى 20-25 عاما، دع عنك من تورط منهم، إضافة إلى ما تقدم، في شراء مساكن سرعان ما انكشف سوء بنائها وتصميمها. كل هذا وغيره لم يعد ممكنا الوقوف أمامه موقف المتفرج، وأصبح واجبا العمل الحثيث والجاد على معالجة هذه الأزمة المفتعلة من الأصل، والقضاء بسرعة على أسباب نشوئها من الأساس، دون الالتفات إلى ما ينسجه المستفيد من استدامة تلك التشوهات والمخاطر، وأن الحرص على تحقيق المصلحة الأكبر لضمان الأمن الاجتماعي والاقتصادي للبلاد والعباد أيضا في هذا الشأن، أعلى بكثير ودون مقارنة من المصالح الضيقة لعديد من الملاك والمضاربين على أراض جرداء. والله ولي التوفيق.