مسيرات، احتقانات، هتافات، اشتباكات، أدخنة قنابل غاز، أعيرة خرطوش، زجاجات «مولوتوف»، دواليب سيارات محروقة، كتابات غرافيتي مسيئة، أعلام مرفوعة، بقايا شباشب متناثرة، بضائع مكسورة، أعين زائغة، أجواء مشحونة، أصوات مبحوحة ومشاهد مفزعة ميزت ليلة ليلاء. الكل اتفق أنها كانت ليلة ليلاء. أنصار «الشرعية والشريعة» المطالِبون بعودة الدكتور محمد مرسي إلى سدة الحكم مع عدم احتساب الأيام الماضية من فترة رئاسته، يؤكدون أن الليلة لم تكن إلا خطوة على طريق «نصرة الإسلام» وإعادة مرسي، لكنها كانت ليلاء. وأنصار «الانقلاب الشعبي» على أول رئيس مدني منتخب يخفق إخفاقاً تاماً في إدارة شؤون البلاد ويقسم شعبه نصفين، يجزمون بأن الليلة كانت مسماراً إضافياً في نعش الجماعة وحلفائها، لكنها كانت ليلة ليلاء أيضاً. البناء الدرامي لليلة متطابق، والديكور واحد، والسيناريو كما هو، وتطور الأحداث متفق عليه، والمؤثرات الصوتية لا خلاف عليها، وأبطال العمل يعرفهم الجميع، وعلى رغم ذلك خرجت أحداث الليلة الليلاء بنسختين متناقضتين متضادتين، لعب الطيب في النسخة الأولى دور الشرير في النسخة الثانية، والعكس. سكان القاهرة المطلة بيوتهم على مسارات مسيرات «الشرعية والشريعة» والواقعة أعمالهم في مواقع احتجاج أنصار مرسي والذين تصادف مرورهم في أماكن أداء صلاة التراويح بعرض «كوبري (جسر) أكتوبر» ليل أول من أمس يحكون قصصاً وحكايات عما جرى ودار. القابعون في بيوتهم أظلموا شققهم، واكتفوا بالفرجة من وراء النوافذ لفداحة المشهد الذي اختلط فيه البشر الغاضبون بالشوم المرفوع، ورفعت فيه أعلام مصر التي تم التلويح بها بكثافة عساها تنسي المتفرجين رايات الجهاد السوداء وأعلام الجماعة الخضراء. أما الباعة الجوالون المرابطون في ميدان رمسيس، فاستعدوا لاستقبال مسيرات «الشرعية والشريعة» الآتية لاحتلال الميدان، حيث أكل عيشهم ومنطقتهم التجارية المحررة من نفوذ الشرطة منذ أشهر والقادرين فيها على الضرب بعرض الحائط بأية قوانين، بتحذير شديد اللهجة موجه إلى الجماعة وأتباعها بعدم الاقتراب من الميدان. وأعلى «كوبري أكتوبر» تم تنفيذ الخطة «الإخوانية» بشل القاهرة بحذافيرها، إذ أقام الأنصار والأتباع صلاة التراويح بعرض الجسر رغم أنف السيارات التي اضطرت للتوقف بعيداً بعدما أشعل المصلون السلميون إطارات السيارات لتنير لهم المكان. التظاهرات والمسيرات «السلمية» الهادفة إلى إعادة مرسي إلى القصر نقلتها عدسات مواطنين من هواة التصوير، وتغريدات مواطنين ينقلون الأحداث بينما تجري، وكاميرات تلفزيونية تتابعها الملايين مرة عبر الصورة الحية ومرة عبر المراسل الناقل للتطورات. وبين مشاهد سكان رمسيس وغمرة الذين شكلوا لجاناً شعبية لتأمين بيوتهم وعائلاتهم من شرور مسيرات «الشرعية والشريعة» الغاضبة، إلى شهادات لمارة يحكون فيها عن استعدادات الباعة الجوالين بكل ما أوتوا من أدوات شرعية للدفاع عن النفس من حراسة وتأمين لبضائعهم وأخرى غير شرعية من أسلحة بيضاء وزجاجات «مولوتوف» خضراء، وما خفي كان أعظم. ما خفي من تفاصيل الليلة الليلاء سيظل حديث الأيام المقبلة إلى أن تحل ليلة ليلاء أخرى، فما بدا عنكبوتياً وتلفزيونياً وبرؤى العين أنه الوجه الوحيد للحقيقة، التي هي نية مبيتة لأنصار «الشرعية والشريعة» لإصابة العاصمة بالشلل والضغط على جموع المصريين بحبسهم وعزلهم في الطرقات والميادين وأعلى الكباري علهم يطالبون معهم بعودة أول رئيس مدني جاءت به الصناديق، تعامل معه الجانب الآخر على أنه محض كذب وصميم افتراء و خلاصة الدعاية السوداء وخبرة إعلام الفلول وتجسيد لحرب الإشاعات التي تحاول تشويه «مليونيات الشرعية التي تبهر العالم». عنصر الإبهار الذي ركزت عليه جريدة «الحرية والعدالة» في صدر عددها الصادر أمس تحدث عن نفسه في مئات التحالفات التي لم يسمع عنها أحد من الفريق الآخر والتي انتفضت لنصرة الشرعية وحماية الشريعة. فمن «أعضاء هيئة تدريس الجامعات» إلى «تحالف جامعيون ضد الانقلاب» إلى «ألتراس أزهري» إلى «حركة من أجل الإصلاح» وغيرها من الحركات والائتلافات التي يشير إليها أنصار الجماعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شاشات القنوات الداعمة للشرعية والشريعة «انتفضت مدن مصر ومحافظاتها» بل وبعض المدن الأجنبية، ومنها إسطنبول للمطالبة بالشرعية والشريعة. أحداث هذه الليلة التي أبهرت العالم، بحسب القصة «الإخوانية، وأزعجته، بحسب الرواية غير «الإخوانية»، كانت دليلاً دامغاً على أن الجماهير السلمية العريضة مع عودة مرسي، وهي الجماهير التي أتت من كل حدب وطريق سريع وآخر بطئ وميكروباص مؤجر وباص مملوك للجمعيات الدينية لنقل أنصار «الشرعية والشريعة» من القرى والنجوع والمحافظات للاعتصام في رابعة والانطلاق بحسب الخطط الموضوعة، مرة للزحف، ومرة للعبور، ومرة ثالثة لاستنساخ غزوة بدر ولكن من أجل إعادة مرسي إلى القصر. تغريدات المرشد العام لجماعة «الإخوان» محمد بديع تطالب المرابطين في «رابعة» بالاستعداد ل «بدر الثانية»، وتؤكد أن «حكم مغادرة ساحة رابعة العدوية كحكم من يفر من المعركة والجهاد ضد الكفار»، داعياً إياهم إلى «الثبات حتى النصر». أما الأخبار الواردة عبر جريدة «الحرية والعدالة» فتطمئن المعتصمين إلى «إعداد خيمة متخصصة للوصية»، حيث «يقوم المعتصمون بكتابة وصيتهم قبل الشهادة تأكيداً منهم على الشهادة بسلمية كاملة». وتكتمل ملامح القصة عبر شاشة «الجزيرة مباشر مصر» التي لا تبث إلا أخبار الجماعة وحلفائها وتفاصيل اعتصام رابعة العدوية وبعضاً من المسيرات السلمية، مع آراء الضيوف والمعلقين الداعمين للشرعية والشريعة ورسائل الحب والعشق للدكتور مرسي القادمة من القرى والنجوع ومن المجاملين من اليمن وقطر وتونس وتركيا وغيرها. الكاميرا المثبتة في داخل دار مناسبات رابعة العدوية الذي تحول غرفة عمليات للاعتصام، استعدت لاستقبال مصابي أحداث رمسيس قبل وقوع الاشتباكات. وحرص زملاء المصابين على مساعدة المصور بعرض المصابين على الشاشة أولاً قبل تلقي العلاج. وبينما الكاميرا تغازل الناطق باسم الجماعة الذي يتوسط الكادر ويتحدث عن مئات المصلين الذين تم استهدافهم في رمسيس وحملهم زملاؤهم على الأعناق ليتلقوا العلاج في رابعة العدوية، وهي مسافة تبلغ بضعة كيلومترات. وفي انتظار ليلة ليلاء جديدة متوقعة، أو نهار أغبر آخر منتظر، يعرف المصريون أنهم موعودون بقصة ذات وجهين متطابقين في التفاصيل متناقضين في توزيع الأدوار.