يبدو أن اللحظات الصعبة والأوقات العصيبة تدفع الجماعة دفعاً إلى إعادة اكتشاف ذاتها، وإعادة هيكلة الواقع، وإعادة صياغة الأماني، وإعادة رسم الأحلام، وإعادة ترتيب الأولويات، وإعادة تصنيف الأعداء، وإعادة توصيف الأصدقاء، وإعادة تدوير الهتاف الدرامي «بالروح بالدم نفديك يا إسلام». منصة «رابعة» التي تراقب أحاديث الفض وتتابع تحركاته وتحلل تكتيكاته وتترقب حدوثه بين لحظة وأخرى، وجدت نفسها مضطرة إلى إعادة هيكلة الاعتصام وترتيب أولوياته وتغيير هتافاته وتحوير مساراته وفق ما يستجد من أمور، سواء كانت انقطاعاً لتيار كهربائي، أو توزيعاً لمنشور تحذيري، أو متابعة لخبر تهديدي، أو رصداً لتحرك دولي، أو حتى مسحاً لمسار تدويني على «فايسبوك» أو طريق تغريدي على «تويتر». يغرد أحدهم: «إزاحة المغيبين في إشارة رابعة باتت واجبة»، فتجد اللجان الإلكترونية والميليشيات العنكبوتية وقد صبت عليه نيران الردود الغاضبة والتعليقات الشاتمة، على شاكلة: «بل العلمانيون الأنجاس هم المغيبون»، أو «إشارة رابعة التي تتحدث عنها أيها الجاهل هي معقل الدفاع عن الدين الحق وأمير المؤمنين مرسي». الدكتور محمد مرسي لم يعد نجم منصة «رابعة» الأوحد، ولم تعد صرخات «بنحبك يا مرسي» هي سيدة الصراخ، ولم تعد هتافات «بالروح بالدم نفديك يا شرعية» هي أم الهتافات، ولم تعد دعوات «الحرق والتشتيت والخراب والدمار» مخصصة للغرب الكافر والعدو الصليبي، بل باتت عاملاً متغيراً تتغير بوصلته وفق اتجاه رياح الدعم والتأييد الخارجي وهبوب عواصف الديموقراطية بالمقاييس الأميركية، المتطابقة حالياً ومقاسات الجماعة. فمقاسات الجماعة ومعاييرها الحالية في تلك اللحظات المنبئة بشبح الفض بين لحظة وأخرى، لم يعد يوائمها الطريق إلى القدس، حيث الصراخ التقليدي «على القدس رايحين شهداء بالملايين»، بل وجدت في الميادين المصرية بديلاً أنسب، حيث أعلنها القيادي الإخواني صريحة «ثابتين في الميادين شهداء بالملايين». هذا الثبات الذي كان موجهاً من قبلُ في المناسبات الوطنية والأعياد الدينية صوب العدو الصهيوني المحتل أو الغرب الصليبي الكافر أو القردة والخنازير أينما كانوا، بات موجهاً تجاه كل من يرى في الاعتصام «إرهاباً»، وفي رابعة «إشارة»، وفي المنصة «إثارة»، وفي مشايخها نفاقاً، وفي أمرائها ناراً، وفي غاياتها خيانة. وبدلاً من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي كانت تنضح بها ميكروفونات المنصة ويطوّعها مرددوها لخدمة نظريتهم بأن وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي يحارب الإسلام حتى يمنع معتصمي رابعة من تحرير القدس، أصبحت الآيات والأحاديث تنضح، ولكن بعد تطويعها، لتخدم نظريتهم الجديدة بأن كل من هم خارج رابعة يحاربون الإسلام الذي جاء المعتصمون من أجل نصرته لا نصرة شرعية مرسي. وبين ليلة تنذر بالفض وضحاها، بات القابعون خارج «رابعة» في عرف المنصة هم المنافقون الذين لا يؤمنون بالله واليوم والآخر، ولا يؤمنون بوعد الله في الدنيا والآخرة، وبات أولئك غير قادرين على فهم أن من هم في رابعة ينتظرون الشهادة أو نصر الله، وفي ذلك طلب ضمني لكل من توجه إلى «رابعة»، سواء لدعم الدكتور محمد مرسي، أو من أجل الديموقراطية، أو ركوب مراجيح العيد، أو اللمة الحلوة بين الأصدقاء والمعارف من القرى والنجوع لخبز الكعك واحتساء الشاي، بأنهم باتوا «مشروع شهيد». وعلى وقع تسارع دقات الساعة وتوتر التوقعات بموعد الفض وطريقته وخسائره ومكاسبه، تسارعت وتواترت وتصاعدت نبرة التخوين والتكفير النابعة من «المنصة»، التي هي جهاز التحكم من قرب في مشاعر رواد الاعتصام وأحاسيسهم وحماساتهم وإحباطاتهم: «هم (الذين خارج رابعة) لا يؤمنون بما تؤمنون به، ولا يرون نور الله، أو حقيقة ما تصدقون الله فيه، وما وعدنا (نا هنا للدلالة على مستوطني رابعة) الله ورسوله». ويكفي أن معتصمي رابعة ناموا سعداء بعدما أقنعتهم المنصة أنهم أشبه بالمسلمين في «غزوة الخندق». هذه الأجواء الروحانية التي تتأرجح ب «رابعة» بين تكفير الغرب قبل أسابيع ثم السكوت عليه، وبين شيطنة أوروبا ثم التزام الصمت تجاهها، وبين دعوة الصحافيين للحضور لرابعة والنهضة ليشاهدوا بأنفسهم الأجواء الاحتفالية والبيئة الربانية والسلم والسكينة التي تغلف الاعتصام، ثم الاعتداء على من تسوّل له نفسه -أو نفسها- التغطية الصحافية أو التصوير الفوتوغرافي، لكي لا تزعج جموع المعتصمين، سواء كل الوقت أو بعضه. فكل ما يصدر عن المنصة مقبول، لا سيما وأن «فوبيا» الطقوس الدينية تسيطر على الخطب النارية والصرخات الاستنفارية، فمن «مجزرة الساجدين» في أحداث دار «الحرس الجمهوري»، حين حاول أنصار «الشرعية والشريعة» (وقتها، قبل أن يتحولوا إلى أنصار للإسلام) اقتحام المنشأة العسكرية، إلى «مذبحة الراكعين» في رمسيس، حين توجه المعتصمون إلى ميدان «رمسيس» محاولين احتلاله مع إقامة صلاة التراويح أعلى كوبري «6 أكتوبر»، ومنهما إلى «قطعوا النور علينا وإحنا بنصلي»، أو حسبما ندد البلتاجي «ما فعلوه زادنا إصراراً بأننا على حق بعد أن أغلقوا الأنوار على الناس أثناء الصلاة والسحور (لصوم الستة البيض) والنوم»، وذلك وسط مخاوف ساخرة من أن يتم فض الاعتصام أثناء لعب الأطفال في «رابعة بارك»، فتكون «مذبحة المتمرجحين»، أو حين تكون النساء يخبزن الكعك فتتحوّل إلى «مجزرة الخابزين»، أو بينما يستحم المعتصمون فتخرج إلى الإعلام الغربي باعتبارها «مجزرة المستحمين». حماة الشرعية قبل 45 يوماً مروا بأطوار كثيرة لا بد وأنها أرهقتهم، فمن مسيرات ليلية لمحاصرة منشآت عسكرية، إلى محاولات نهارية لقطع طرق حيوية، إلى هتافات على مدار الساعة لإنزال المقت على الكفار وإلحاق الخراب بالانقلاب وإلصاق النجاسة بكارهي أول رئيس مدني منتخب، إلى إدخال البهجة على قلوب الأطفال بشراء الأكفان الصغيرة لهم، إلى إسعاد النساء القرويات بإمدادهم بلزوم خبز الكعك، حيث اللمة الحلوة والمتعة النسوية، إلى التدريبات القتالية بالخوذات الهندسية والشوم الخشبية، إلى عمليات البناء والتعمير بإقامة الأسوار الخرسانية، إلى محاولات التنويم المغناطيسي لسكان «رابعة» الأصليين وإقناعهم بأنهم للاعتصام داعمون وللشرعية مؤيدون وللشريعة حافظون وبالجيش منددون وللمنصة شاكرون، رغم أنوفهم واستغاثاتهم وبلاغاتهم المطالبة بتحريرهم من قبضة الاعتصام. أما الطور الحالي، حيث استعداد تكتيكيي المنصة للشد من أزر المعتصمين وحثهم على الثبات في المكان وإقناعهم بعدم العودة إلى بيوتهم أو أعمالهم، ومعهم مخططو الاعتصام، حيث لوجستيات المولدات الكهربائية تحسباً لتكرار انقطاع التيار ساعة الصلاة، ومواد البناء لتشييد الأسوار الخرسانية استعداداً للفض أثناء الركوع أو السجود، إضافة إلى كرم ممولي الاعتصام، حيث توفير الوجبات وتزويد المراجيح وتعليق اللافتات ونصب الخيام وبناء الحمامات، فهو طور جديد يستوجب الاستناد إلى آيات أخرى وأحاديث مختلفة وإعادة تفسيرها لتكفير من يجب تكفيره في هذه المرحلة حتى وإن كان من أبناء الوطن الواحد، والثناء على من يجب شكره في هذا التوقيت حتى وإن كان من أبناء الغرب الكافر، ومغازلة من تجب مغازلته حتى وإن كان من أبناء أوروبا الصليبية، وذلك انتظاراً لفض الاعتصام.