بينما أنا أعبر شارعًا في مدينتي، وإذ عيني ترمق شخصًا كان يعبر الطريق إلى جواري، وقد تزاحمت لحظتها صور وذكريات حج العام الماضي، لأستعيد معها ملامح رجل من كبار السن كان رفيقي في رحلة الحج، فلحقت به وكنت أظنه هو بداية، لولا أنني تداركت الأمر وتبين لي أنه ليس المقصود، ولكن «يخلق الله من الشبه أربعين» كما يقال، وكان هذا الموقف كفيلاً أن يجعلني أستدعي من الذاكرة قصة رجل من كبار السن، فبينما وأنا أهمُّ بركوب إحدى حافلات شركة حملة الحجاج التي اخترتها، كان حظي أن جلست في مقعد إلى جوار هذا الرجل المسن، والذي بدا لي أنه على وجه السبعين، وقد علاه الشيب الأبيض وغطّى على كل سواد في شعر رأسه ولحيته التي كان يداعبها بيديه وكأني به يقول: عريتُ منَ الشّبابِ وكنتُ غضاً كمَا يَعرَى منَ الوَرَقِ القَضيبُ فيا ليت الشباب يعود يومًا فأخبره بما فعل المشيب لقد كنت سعيداً إذ كانت ابتسامته في استقبالي، والتي لم تشوهها أخاديد الزمن التي ارتسمت على وجهه المضيء بالإيمان، لم تطل لحظة التعارف بيننا، حتى شعرت برغبة في أن يطول زمن الرحلة لجمال كلامه وصدق تعبيره، وتمنيت ألاَ ينازعني أحد على مكاني طيلة مشوار الرحلة، فقد غمرني بلطفه، حين يناديني ب(يا ولدي)، وأفاض علي بنهر ذكرياته فكنت أصغي إليه بكامل حواسي، وأسجل في ذاكرتي ما أسمعه منه، وأنا أتابع حديثه الشيق، ولم أكن لأتعب في جر ذكرياته لزمن مضى ورحلات حجه، فقد راح يسرد لي مواقف ومواقف من رحلاته، وكان بين حكاية وحكاية يرسل الآه تحسراً على جمال تلك الأيام التي مضت، رغم ما كان الناس يقاسونه من معاناة في الوصول إلى مكةالمكرمة، وقد أُنهكت قواهم إلا أن لذة الرحلة، كانت في ذلك التعب الذي كان يلقاهم، إذ كانت سلواهم قولهم عند الشعور بقسوة ظروف الرحلة «التعب منسي» لقد كانت رحلات السابقين إلى الحج، قطعة من العذاب، لكنها محملة بالمواقف الرائعة التي حينما يذكرونها، سواء في قلة المؤنة ،أو تواضع مركوب السفر، إذ كان بعضهم يركب في حوض السيارة الخلفي المسماة «الفورد» وكانوا يبقون لأيام، ويقفون في محطات للراحة في البر، وكانوا يطبخون على الحطب، ويسلون أنفسهم بالذكر تارة، والحداء تارة مع شيء من القصص «والسواليف» التي تساعدهم على قطع الطريق، لقد أعادتني هذه السطور لأفتش عن أبيات كنت قد دوّنتها في ورقة حينما نقلتها من كتاب، ووضعتها بين صفحات كتاب، كنت أقرأ فيه لشاعر أندلسي نسيت اسمه يقول فيها: دأبوا على السير الحثيث وحثهم شوق يذود عن الجفون كراها حتى بدا القمر الذي لولاه ما بدت النجوم ولا بدا قمراها قمر بيثرب أشرقت أنواره حتى أضاءت أرضها وسماها محمد إبراهيم فايع [email protected]