في الأجواء المتضادة والمتطرفة من الحرارة الشديدة صيفا إلى البرودة الشديدة شتاء ، وهي من أهم خصائص الطبيعة الصحراوية الجافة ذات التضاريس الجغرافية المتباينة ، حيث تتسع المساحات الرملية الثابتة والمتحركة ، وتنحدر الأودية الجافة بشدة ، وتتسع المساحات الجرداء العارية من النباتات الخضراء عدا بعض الواحات المتباعدة وبعض ضفاف وروافد الأودية التي تنمو بها أشجار النخيل وقليل من المزروعات مع ندرة الأمطار والاعتماد على المياه الجوفية الغائرة . وبرغم تطرف هذه الطبيعة وبشكل خاص البرودة والحرارة كعاملين مناخيين شديدي التضاد إلا أن الإنسان يتكيّف معها بنوعين من التكيّف العقلي : أحدهما : تكيف مادي مع حالة الطقس صيفا وشتاء بوسائل مختلفة كانت بدائية وأصبحت حديثة ومتطورة . والآخر : تكيف نفسي مع الطبيعة المتطرفة بتطرف فكري وثقافي ، وهذا النوع من التكيّف يزيد من حدته عامل آخر وهو العامل التربوي الاجتماعي كالتنشئة الاجتماعية والتلقي وتأثر ذوي الاستعداد النفسي المسبق للتأثر . ومن المنطقي أن ينتج عن التكيّف العقلي بنوعيه ( المادي والنفسي ) تأثيرات عاطفية مثل : الخوف ، التوتر ، القلق النفسي ، مقاومة التغيير ، والتشبث بالمألوف والمعتاد . وتتضح بجلاء أوجه التماثل ( التكيّفي ) في السلوك والسمات والمؤثرات والانعكاسات النفسية على النحو التالي : أولا : التمركز . شدة الحرارة أو البرودة تجبر الفرد من سكان المناطق ذات الطقس المتطرف على التمركز الإرادي حول مصادر التكييف والدفء كلما كان ذلك ممكنا فيزول التوتر النفسي ويشعر الفرد بالدفء العاطفي شتاء وانبساط الشخصية صيفا . وفي كثير من الأحيان يجد نفسه مضطرا للمكوث فترة أطول في الأماكن التي تتوافر بها مصادر التدفئة أو التبريد ، أو التقوقع حول النار والحطب بالنسبة لمن يعيش في الصحاري أو يسكن بيوتا غير ملائمة لوسائل التدفئة الحديثة . وكذلك تجبر شدة التطرف الفكري المتطرف لا إراديا على التمركز حول الذات والاتجاه . مما يمنح المتشدد مزيدا من تمركز الآخرين حوله ممن لا يشعرون بالرضا عن الذات إلا بالتسليم لآرائه بثقة مطلقة فيكون بذلك المتشدد بالنسبة لهم مصدر الدفء والتوازن العاطفي . ثانيا : الانغلاق . يشعر الفرد بالضيق وبعض التغيرات الفسيولوجية حتى يدخل أماكن تكييف الهواء البارد في ذروة حرارة الصيف أو أماكن الدفء في فصل الشتاء البارد مما يجبره على المكوث ما أمكنه ذلك في هذه الأمكنة التي عادة ما تكون مغلقة . وفي المقابل هناك انغلاق المتطرف النفسي التكيّفي . ثالثا : الضيق . ضيق المكان الذي تتوافر فيه مصادر التكييف أو التدفئة بالنظر لارتفاع كلفة هذه المصادر يقابله ضيق نفسي وهو ضيق الأفق لدى الفرد المتطرف فكريا بسبب محدودية مصادره المعرفية وأُحاديتها . رابعا : التوتر النفسي . شعور الإنسان كلما أضطر للخروج من مكان التكييف بالتوتر النفسي وتصبب العرق في الجو شديد الحرارة ، أو شعوره كلما أضطر للخروج من مكان التدفئة بالرعشة والقشعريرة بسبب تعرضه لتيارات الهواء الباردة في الخارج . وفي المقابل يشعر المتطرف الفكري والديني بالتوتر والقلق النفسي والخوف والارتباك الذهني كلما حاول الخروج على المألوف من المعرفة ، والبيئة الثقافية السائدة ، وسلبية الثقة في مصادر المعرفة الأخرى . الأمر الذي يؤدي إلى التشكك والتشكيك في كل نتاج علمي حتى لو كان مبني على التجريب ومنطق العقل ، وفي صدق معلومات ونوايا الآخر المختلف ، لذلك تجده كثير التشكك في نوايا الآخرين المخالفين له في الرأي والاتجاه الفكري وفي معلوماتهم التي كثيرا ما يلبسها المتطرف ثوب المؤامرة والعدائية ، وكثيرا ما يحذر أتباعه من مخالفيه خوف العدوى باعتبارهم ناقلين لها !. وفي هذه الأجواء الطبيعية و\" النفسجتماعية \" كلما أزداد عدد السكان كلما أزداد عدد الأشخاص من ذوي الخصائص والسمات الشخصية التي تفتقد لتقدير الذات فتتمركز حول الشخص الذي يمدها بطاقة من الثقة والاطمئنان وهو في هذه الحالة المتطرف الديني وصاحب السلطة والنفوذ . ولعله من نافلة القول أن أقرب مثالا للعلاقة والترابط الوثيق بين التطرف الفكري والتشدد الديني وبين الطبيعة الصحراوية الجافة ، وفصولها المناخية المتضادة ، وطقوسها المتطرفة حرارة وبرودة ، وتضاريسها الصعبة ، هو جزيرة العرب وشمال أفريقيا ، وبشكل خاص في المملكة العربية والسعودية ، ومصر ، والمغرب ، والجزائر ، وهي الدول العربية التي عانت وما تزال من صعوبة في التعامل مع العقل الممتنع وغير السهل والفكر المتطرف وما نتج عنه من أحداث ما تزال في أوجها .. تركي سليم الأكلبي [email protected]