كان سكان إمارة الشارقة، زمن حاكمها سلطان بن صقر القاسمي، لا يزيدون عن 10 آلاف نسمة، معظمهم يقيمون في المدينة، حين أصدر مراهق لم يكن عمره في 1927 أكثر من 18 سنة، ما يعتبرونه الآن أول صحيفة عرفتها دولة الإمارات المحتفلة اليوم بمرور 40 سنة على استقلالها. صدرت في ظروف صعبة، فلم يكن هناك نفط ولا مكيفات هواء تأتي بالنسيم العليل، ولا كهرباء ولا مطابع وآلات كاتبة أو إنترنت وحواسيب، ولا حتى ماء بارد من الثلاجات، أو فاكهة مثل التي تزرعها الإمارات أو تأتيها بالسفن والطائرات من دول في 5 قارات. سماها "صحيفة عُمان" لأنه كان يعرف أن أجداد أجداده جاؤوا أصلا من هناك، وكان يحررها ويكتبها بنفسه ويخط بيده 5 نسخ منها بحبر يستخرجه من سمك الخليج، ثم يعلقها على الجدران في وسط الشارقة قبل 84 سنة، فيطلع على محتوياتها من كان يعرف القراءة، ثم ينقل بعضهم ما قرأه لآخرين متلهفين لمعرفة الأخبار، وبذلك تقلصت عزلة المدينة وأصبح العالم لها معروفا. وحين تفجر سائل الرأسمالية الأسود من حقول وآبار أبوظبي بعد أكثر من 30 سنة، ثم من بعدها في معظم الإمارات، تغيرت الشارقة ومدينتها وتأسست فيما بعد دولة الإمارات العربية المتحدة واستقلت في مثل هذا اليوم من عام 1971، ونمت وأصبح لها بريق عالمي، ومعها نما ذلك المراهق مرافقا تطوراتها، ثم أطلقت الشارقة اسمه بعد وفاته عن 76 عاما في 1985 على ما يقع فيه حاليا مقر بلديتها: شارع إبراهيم محمد المدفع. مكتبة و3 صحف في منطقة تفتقر لكل شيء ثم قاموا من بعدها في أواخر 1996 بتكريمه أكثر، وافتتحوا متحفا خاصا به سموه "مجلس المدفع" المعروف حاليا بأنه "أهم المتاحف التراثية في الإمارات" لاحتواء مبناه على برج دائري يسمونه "بارجيل" بعامية الإماراتيين، وهو شبيه بالمئذنة، ويصفونه بنادر وفريد من نوعه في كل المنطقة، تماما كما كان المراهق إبراهيم، لأنه قام بإنجازات في منطقة كانت الإنجازات الثقافية فيها نادرة كالماء، فقام وحده بتغيير أوضاعها بثورة إعلامية شهدت معها المدينة مراهقا يصدر 3 صحف ويؤسس مكتبة في منطقة كانت تفتقر إلى كل شيء تقريبا. نقرأ أن الموجود في "مجلس المدفع" الآن أكثر من 400 كتاب كانت ببيته حين وفاته، كما وقلمه وحبره ومدواة كان يستخدمها، مع أوراقه وصوره وأغراضه الخاصة، مثل ساعة جيبه وحافظة مفاتيحه وجهاز راديو طرازه قديم وحجر أسود لاختبار عيار الذهب وصندوق خشبي يسمونه "بشتخته" ويستخدمه تجار اللؤلؤ المعروفين شعبيا باسم الطواويش. ثم هناك الأهم: رسالة وجهها رئيس لجنة إغاثة الأسطول العثماني في البصرة قبل 100 عام إلى جد إبراهيم المدفع، وبدأها بقوله: "إلى جناب الأجل الأكرم عمدة (شارجه) عبدالرحمن المدفع المحترم". لكن "العربية.نت" لم تعثر في أي مكان ولو على صورة واحدة لأي من الصحف التي أصدرها، كما لا توجد نسخة عن أي منها في "مجلس المدفع" على ما يبدو، باعتبار أن محتوياته خالية من ذكرها. وتفاصيل ما أصدره إبراهيم المدفع كان نشرة غير معروف اسمها، "وكانت منتظمة عن أخبار الهند، وكان يعرضها في السوق ليطلع عليها الجميع"، بحسب ما راجعته "العربية.نت" مما كتبوا عنه في مواقع متنوعة. كما أسس حين كان عمره 19 سنة "المكتبة التيمية الوهابية"، وكانت ثاني مكتبة تعرفها الشارقة. لكن الصحافة كانت دائما في بال إبراهيم وشغله الشاغل، فبعد توقف "صحيفة عُمان" عن الصدور، ولم تكن استمرت سوى عام واحد فقط، عاد في 1932 وأسس صحيفة "العمود"، وكانت فكاهية تأثرت كما يبدو بنمط فكاهي تميزت به مجلة "حبزبوز" العراقية التي كانت تصل إلى الامارات، لكن "العمود" كانت سياسية أيضا ولاذعة تنتقد الوضع في "إمارات الساحل المتصالح"، كما كانوا يسمونها ذلك الوقت، ومعها كانت تنتقد الوضع في الخليج كله تقريبا. وبعد عامين أقدم إبراهيم على ما سبق به موقع "تويتر" الذي تأسس منذ 5 أعوام، فاختار قبل 76 سنة اسما بالعربية يعني أيضا "زقزقة" لمن يترجمته للإنجليزية، فأطلقه على صحيفة أسسها في 1933 وسماها "صوت العصافير"، وراح يكتب فيها "معارضا الوجود البريطاني بمنطقة الخليج"، وفق ما يذكرون عن المراهق الذي درس وهو طفل بالكتاتيب، وتعلم الخط وهو فتى على يد الشاعر أحمد عبدالرحمن الهرمسي، المعروف لسكان الشارقة باسم "بوسنيدة"، ثم التحق بما كان اسمه "المدرسة التيمية المحمودية"، وكانت أول مدرسة شبه نظامية تعرفها الإمارات. واستخدم المدفع حبرا كانوا يسمونه "النغر الأحمر" حين استخراجه من سمك الحبار المتواجد بكثرة في مياه الخليج قبل تحويله إلى أسود لكتابة "صحيفة عُمان" التي كانت تصدر مرة كل أسبوعين في ملحقين كبيرين، وعلى 5 نسخ من كل عدد، حيث كان يقوم بتوزيعها على شيوخ الشارقة وبعض الأصدقاء ويعلق نسخة منها في وسط المدينة ليقرأها المارة. اشتغل مع 4 حكام وظل مرتبطاً بالصحافة ومما يذكرونه أن العابرين في وسط الشارقة كانوا يحيطون بنسخة الصحيفة وهي معلقة على الجدار، فيطالعون ما فيها من أخبار ومقالات يكتبها أدباء وشعراء، منهم المؤرخ عبدالله صالح المطوع، وأحمد بن حديد، ومبارك بن سيف الناخي، وحميد بن عبدالله الكندي، وحمد بن عبدالرحمن المدفع، وغيرهم ممن كانت لهم مواقف وآراء في عشرينات القرن الماضي، فولد في "الإمارات المتصالحة" ذلك الوقت جنين ثقافي وإعلامي نادر على يد المراهق الذي تسلم فيما بعد مناصب كثيرة، لكنه ظل مرتبطا بالصحافة كمهنة تملكته إلى الرمق الأخير. ومثلها "صحيفة عُمان" كانت أيضا "صوت العصافير" التي كان يصدرها المدفع أحيانا كلما تسنى الحال، أي يومية أو أسبوعية، أو حتى مرة كل أسبوعين كصحيفة حائط يقوم بتحريرها معه شباب من الشارقة ودبي والبحرين والكويت، فاشتهرت كمنتقدة للسلبيات المحلية، إلى أن بدأت تتحول بدءا من 1938 إلى شبه سرية بعد أن بدأت قوات الحماية البريطانية تعزز من سطوتها وتدخلها في كل كبيرة وصغيرة في الشارقة. وكان من كتاب "صوت العصافير" إلى جانب إبراهيم وابن عمه حسن، كل من حنظل صالح، وعلي محمد الشرفا، وعبدالله الصانع من الكويت، ومعهم عبدالرحمن المعاودة من البحرين، فاشتهرت وقويت شكيمتها، واضطرت جاسم الكظماوي، وهو ممثل دار الاعتماد البريطانية، لإصدر نشرة منافسة مكتوبة أيضا باليد، وأحيانا بالآلة الكاتبة، ليرد على أخبار ومقالات "صوت العصافير"، وكان يعلقها أيضا على الجدار، إلى جانب "صوت العصافير" تماما. صحف مصر والعراق والكويت كانت مصدره الوحيد وأول إشارة لصدور صحف بالإمارات نجدها في رسالة تاريخها أواخر 1927، وما زالت محفوظة، وتسلمها إبراهيم من ابن عم له اسمه حسن، ويبدو أنه كان مقيما في بلد آخر، وفيها يهنئه على إصداره "صحيفة عُمان"، ويطلب منه تزويده بنسخ، وكتب في بدايتها: "عرفت جنابك حررت جريدة باسم (عُمان)، أخي كثيراً أخذني الفرح، في تلك البلاد، فلم يكن هناك جريدة عربية ولا عجمية من قبل، ونرجو من الباري لها دوام الانتشار، وأرجو من صميم فؤادي أن ترسل لنا من جريدة عُمان". وكان إبراهيم المدفع يستمد الأخبار ومواعيد وصول السفن إلى الخليج والتي كان ينشرها في صحفه الثلاث "من صحف كانت تأتينا من مصر والعراق والكويت، فنتابع الأخبار من خلالها ونقوم بإعادة صياغتها ونشرها، وكنا نكتب فيها عن أخبار البلد والأسعار والمناظر المؤذية وحكايات عن البدو، وأخبار عن الغوص والأسفار، وكتبنا أيضاً مواضيع سياسية عن الحالة الراهنة آنذاك، وأذكر أننا كتبنا عن الإيطاليين وكفاح عمر المختار وعن فلسطين أيام القاوقجي والحسيني"، بحسب ما قال في 1979 حين كان يصدر مجلة "الأزمنة الغابرة" الشهيرة. وفوق ذلك كله عمل المدفع سكرتيرا ومستشارا لأربعة من حكام الشارقة، فكان كاتبا خاصا ومستشارا للشيخ سلطان بن صقر القاسمي، ومن بعده للشيخ صقر بن سلطان، ومستشارا للشيخ خالد بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة الأسبق. كما ترأس في 1940 دائرة حكومة الشارقة، ومثلها في مكتب مقاطعة إسرائيل بالخمسينات والستينات، في وقت كان يشرف فيه على الجمارك والمالية. وكان إبراهيم المدفع شاعرا، ولو أنه كان مقلا بعض الشيء، ومن أروع قصائده واحدة يصف فيها مصيف حمانا الجبلي في لبنان، وثانية يرصد فيها الحالة الاجتماعية لعرب كانوا يقيمون في مدينة مومباي بالهند، وله مقالات ودراسات موجود معظمها في متحفه وأعداد "الأزمنة الغابرة"، التي غابت فيما بعد وتوقفت عن الصدور، وبعد غيابها غاب هو عن العالم أيضا، لكن ذكراه كمراهق حقق منجزات صعبة في وقت صعب وبيئة أصعب ما تزال تثير الدهشة حقيقية.