أثارت استقالة وضاح خنفر من رئاسة شبكة الجزيرة القطرية تساؤلات العديد من متابعي القنوات الفضائية والمهتمين بالشأن الإعلامي، كما نشأ جدل واسع حول أسباب الاستقالة التي يرى الغالبية أنها جاءت بعد فضائح وثائق ويكيليكس التي كشفت تعاونه مع المخابرات الأمريكية. ويرى آخرون أن أسباب الاستقالة تعود إلى تفوّق قناة العربية التي تبنت وجهات نظر محايدة ولم تنجر إلى تنسيق خارجي، كما اتهمتها أوساط في الشارع العربي سابقاً، في أحداث مختلفة، خاصة بعد أن تبين من خلال الوثائق أن قناة الجزيرة كانت تلعب على التناقضات في سياساتها الإخبارية، وامتثلت لأجهزة استخبارية، بحسب تقارير ويكيليكس، ومارست توجيهاً للرأي العام من خلال موقعها الشعبي لخدمة أغراض أمريكية. وقال متابعون: إن ما يعزز هذا الأمر هو محاولة القناة تغيير المظهر الخارجي وطريقة تقديم الأخبار، لمسايرة التفوق الذي أظهرته قناة العربية التي توجهت للجمهور بشكل أكبر في الفترة الأخيرة، خاصة مع بداية الربيع العربي، وحصولها على نسب مشاهدة عالية. وكانت وثيقة لموقع ويكليكيس قد كشفت تعاون وضاح خنفر مع المخابرات العسكرية الأمريكية في عام 2005، وكانت تقدم تقريراً شهرياً تعرض فيه أخطاء الجزيرة في تناولها الإعلامي للقضايا الأمريكية. وأضافت الوثيقة: وفقاً لما قاله السفير الأمريكي في الدوحة فإن القوات العسكرية الأمريكية تدخلت بشكل كبير في بعض التغطيات الإخبارية الخاصة بقنوات الجزيرة. من جهتها، كشفت جريدة الأخبار اللبنانية الكثير من المعلومات عن مدير قنوات الجزيرة المستقيل، وذلك في تقرير نُشر مؤخراً وعنون ب "شظايا ويكيليكس تصيب وضاح خنفر!". وجاء في التقرير أن الرجل الذي برهن عن قدرة خارقة على تحدّي خصومه، ومواجهة الضغوط السياسية، واجه تهمة موثّقة يصعب تكذيبها أو الشك في مصدرها، وهي وثائق ويكيليكس، التي كشفت أخيراً عن وجود تعاون وثيق بين المدير العام لقناة الجزيرة ووكالة الاستخبارات العسكرية الأمريكية DIA، وعن تلقي الإعلامي الفلسطيني تقارير شهرية من الوكالة عن أداء الجزيرة في تغطية الأحداث المرتبطة بأمريكا ومصالحها (راجع المقال أدناه). وقالت الصحيفة في تقريرها: "وصلت وثائق ويكيليكس شخصياً إلى الرجل القوي في الجزيرة، وها هو يقف في مواجهة فضيحة قد لا يتمكّن من حلّها بدبلوماسيته المعهودة. وإن كان الإعلامي المعروف قد امتنع عن الردّ على ما نشره موقع جوليان أسانج، فإنّ كثيرين يتوقّعون صدور بيان أو تعليق أو تسريب لخنفر قريباً، رغم أن الرجل نادراً ما يعلّق على كل ما يطاله من أخبار أو اتهامات، لكن هذه المرة جاءت وثائق ويكيليكس لتبرز ربما جانباً من سر صعود خنفر وتدرّجه السريع في الجزيرة. وجاء في التقرير أن تاريخ الوثائق المنشورة يعود إلى 20 أكتوبر 2005. وتكشفت عن تعاون وتنسيق دوريين بين وكالة الاستخبارات العسكرية والمدير العام للجزيرة من خلال مسؤولة الشؤون العامة الأمريكية. وخلال اللقاءات بين الطرفَين، تعهّد خنفر بتعديل الأخبار التي تزعج الحكومة الأمريكية أو حذفها تماماً. وبينما اعتصمت قناة الرأي والرأي الآخر بالصمت، من دون خروج أي ناطق رسمي باسمها يوضح حقيقة المسألة، ينتظر الجميع ما سيقوله خنفر في أقرب فرصة للدفاع عن نفسه، متسائلين إن كان سيخرج هذه المرة أيضاً منتصراً من معركته الجديدة. معركة ستكون لا شكّ الأصعب في مسيرة هذا الإعلامي الفلسطيني المحسوب على الخط الإسلامي. كيف لا، وهو يواجه تهمة موثّقة، سرّبها موقع ويكيليكس، الذي دافع خنفر نفسه عنه وعن صدقيته في السابق، بل كان من السبّاقين إلى نشر تسريباته على الشاشة القطرية. وعن السيرة الذاتية، بينت الصحيفة أن وضاح خنفر المولود عام 1968 في قرية الرامة (جنوب غرب جنين في فلسطين)، تمتلئ سيرته بالتحديات والمواقف التي جعلته رجلاً طموحاً، فنجح في الوصول إلى أعلى منصب في هرم أكبر فضائية عربية عام 2003، أي بعد ست سنوات فقط على التحاقه بها مراسلاً صحافياً عام 1997. بداية غامضة لا بد من العودة إلى بدايات وضاح خنفر في الجزيرة: التحق بالفضائية القطرية صحافياً في قسم الرياضة، ليجد نفسه لاحقاً في قسم المراسلين في القناة الإخبارية، حيث عمل مراسلاً من جنوب أفريقيا لتغطية الأحداث في القارة السمراء. ثم وصل إلى الهند لتغطية تداعيات الحرب على أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. لاحقاً، التحق بزميله تيسير علوني في أفغانستان بعد سقوط حركة طالبان وقصف مكتب الجزيرة في كابول، حيث عمل مراسلاً للقناة طيلة خمسة أشهر. ومن أفغانستان إلى العراق، قام خنفر بتغطية أخبار العمليات العسكرية للاحتلال الأمريكي في مختلف محافظات بلاد الرافدين، قبل أن يتسلم إدارة مكتب الجزيرة في بغداد. وكانت هذه المرحلة تحديداً هي نقطة التحول في مسيرته الإعلامية، فانتقل بعدها من مراسل ميداني إلى إدارة شؤون القناة الإخبارية في الدوحة عام 2003. وفي فبراير من عام 2006، عُيِّن مديراً عاماً لشبكة الجزيرة، التي تضم مختلف القنوات والمؤسسات التابعة للجزيرة، بما فيها القناتان الإخباريتان العربية والإنجليزية، والجزيرة الوثائقية والقنوات الرياضية. أما السرّ الحقيقي لهذه النقلة السريعة من العمل الميداني إلى مكاتب الإدارة، فيبقى لغزاً لا يعرف تفاصيله سوى خنفر نفسه، والجهات القطرية التي قرّرت نقله إلى مكاتب الدوحة.. وإن كان بعضهم يؤكّد أن أمير دولة قطر حمد بن خليفة آل ثاني اختاره شخصياً خلفاً للقطري جاسم العلي. وقد مثّل تعيين خنفر مفاجأة مدوية في كواليس القناة الإخبارية، لم يتوقّعها عدد كبير من زملائه، الذين لم يرَوا فيه الرجل المناسب، بسبب تجربته الفتية التي لم تتعد ستّة أعوام، ووجود أسماء كبيرة من مؤسسي القناة كانت تستحق هذا المنصب. أما الأهم، فهو أن هذا القرار أثار حفيظة بعض القطريين، ممن لم يهضموا فكرة تعيين مدير فلسطيني للقناة، بدلاً من إعلامي قطري. خنفر، الذي يقول بعضهم إنه يتقاضى راتباً خيالياً، حصد الكثير من الألقاب، أبرزها تصنيفه في المرتبة الثامنة بين أكثر الشخصيات العربية تأثيراً في العالم العربي عام 2008، وفق مجلة أرابيان بيزنس، والمرتبة الأولى بين الإعلاميين العرب. وفي 2010، حل في المرتبة السادسة ضمن أقوى عشر شخصيات عربية، وفق تصنيف مجلة فوربس. لعلّ كل ما سبق دفع كتّاباً وصحافيين قطريين إلى شنّ حملة انتقادات ضدّ خنفر في الصحف المحلية، متّهمين إياه بإقصاء الكوادر القطرية. في المقابل، يروي بعض الإعلاميين في الجزيرة أن الإعلامي الفلسطيني حاول كسب ثقة زملائه في بداياته. وينسب إليه بعضهم الفضل في ترقية عدد من الصحافيين الذين كانوا يشعرون بالتهميش، قائلين إنّه دافع عنهم لرفع رواتبهم، وعمّم الاستفادة من العلاوات الخاصة، بعدما كانت حكراً على بعض المذيعين النجوم. وضّاح خنفر الذي ينسب إليه بعضهم أيضاً أنه جاء حاملاً أفكاراً تغييرية في السياسة التحريرية للقناة، ودافع عن حقوق المراسلين الميدانيين، واجه في المقابل موجة انتقادات صامتة من داخل المحطة، خصوصاً من جانب المذيعين الذين اتهموه بمحاولة تقزيمهم. وهو ما كرّره أيضاً عدد من الصحافيين البارزين الذين يُعَدّون من مؤسسي القناة، ولم يهضِموا تهميشهم. أما هو، فتابع عمله من دون الالتفات إلى منتقديه، محيطاً نفسه بمجموعة من الكوادر المعروفة بميولها الإسلامية، من بينهم بشير نافع وأيمن جاب الله، كما أسند عدداً من المناصب المهمة إلى فلسطينيين وموظفين موالين لتوجّهاته الإيديولوجية. وقد يكون أبرز ما سمعناه من انتقادات للرجل، صدر عن إعلاميين استقالوا من المحطة احتجاجاً على سياسته. هكذا قال الإعلامي المصري حافظ الميرازي: خنفر شخص مهذب، لكنّه يفتقر إلى الخبرة الصحافية المطلوبة لإدارة محطة مماثلة، فلا يكفي مثلاً أن تكون مراسلاً نشيطاً لتصبح مديراً لقناة بحجم الجزيرة. أما لينا زهر الدين، فقالت: ما تغير في الجزيرة بعد وصول وضاح خنفر إلى إدارتها هو طريقة تعاطيه المتعالية مع الموظفين، وإغلاق أبوابه أمامهم، حتى وصل به الأمر إلى إلغاء الاجتماعات الخاصة بالمذيعين، واجهة القناة، كما أنه صرف العديد من أفراد الطاقم القديم، واستبدل بهم مستشارين ومساعدين لا عدّ لهم ولا حصر. كان يتدخل في كل كبيرة وصغيرة تخص المذيعات، إلى درجة أنه وصفهن بتماثيل الشمع، وأصدر تعميماً منعهن فيه من انتعال الكعب العالي. الجزيرة ومسلسل الاتهامات أثناء إدارته للمحطة القطرية، واجه خنفر ضغوطاً أمريكية وغربية وحتى عربية، سببها انفراد الجزيرة في بث أشرطة فيديو للقيادي السابق لتنظيم القاعدة أسامة بن لادن. وكان هو يدافع عن سياسة القناة بحجة عرض الرأي والرأي الآخر. ما يطرح تساؤلات اليوم، بعد انكشاف تورطه مع الاستخبارات الأمريكيّة: هل الترويج لابن لادن كان بمباركة من العم سام؟ وكان أول تحدّ حقيقي واجهه خنفر، يوم أُثيرت اتهامات في وسائل إعلام غربية، زعمت أن إدارة قناة الجزيرة تورطت في تسليم الإدارة الأمريكية صوراً تليفزيونية صوّرها فريق المحطة الذي رافق الملا داد الله، واستخدمتها القوات الأمريكية في تحديد مكان إقامة القائد الطالباني في ولاية هلمند، ما أدى إلى اغتياله عام 2007. وكانت الانتقادات بشأن الخط التحريري للجزيرة تتصاعد من الداخل أيضاً، فبات الرجل يواجه خصوماً من داخل مجلس إدارة القناة، أبرزهم عبد العزيز آل محمود، الذي أقاله خنفر من رئاسة تحرير الجزيرة نت. وسبب العداء بين الرجلين هو خلاف بشأن السياسية التحريرية، إذ لم يكن آل محمود يستسيغ سيطرة الإسلاميين، والتوجه الإخواني على سياسة القناة، ولا سيما في طريقة التعاطي مع الخلاف الفلسطيني الداخلي قبل الانقسام. المنعطف الكبير في 2007، أي في السنة نفسها التي خرجت فيها فضيحة داد الله، أصدر ولي العهد القطري تميم بن حمد مرسوماً أبعد بموجبه وضاح خنفر من عضوية مجلس إدارة القناة. وعدّ بعضهم ذلك بمثابة بداية النهاية لخنفر. لكن الرجل ظل مديراً عاماً للشبكة، رغم عزله من عضوية مجلس الإدارة، بينما عُيِّن خصمه آل محمود في عضوية المجلس. وازداد خصوم خنفر في هذه المرحلة وسط تنبّؤات قوية بتنحيته وترشيح الإعلامية الجزائرية، إحدى مؤسسات القناة، خديجة بن قنة، لخلافته، نظراً إلى قربها من الشيخة موزة بنت ناصر، زوجة أمير دولة قطر. وأثار هذا الأمر حساسية بينها وبين خنفر، بلغت حد القطيعة، رغم نفي بن قنة علناً ترشّحها للمنصب. وخلافاً للتوقعات، عرف خنفر مرة أخرى كيف ينتصر في معركة جديدة، واحتفظ بمنصبه، وأحاط نفسه بعدد من المستشارين، ما أثار حفيظة زملائه، الذين رأوا أنه بسط هيمنة الإخوان على القناة، وفرض حاجزاً بينه وبين زملائه في المحطة، ما أدى إلى تعرّض بعضهم لعقوبات وإقصاء مهني. هكذا كان وضاح خنفر يدير بهدوء وثقة جبهات الصراع هذه، مستنداً إلى دعم قوي من القيادة القطرية، عرف جيداً كيف يحتفظ به، إذ حصد نجاحات كبيرة من خلال توسيع عمل الشبكة وفتح مكاتب دولية، إلى جانب التغطيات الناجحة، خصوصاً خلال العدوان على غزة عامي 2008 و 2009. وبين الحين والآخر، كانت تبرز اتهامات جديدة لقناة الجزيرة بعقد صفقات سرية مع الإدارة الأمريكية، والتغاضي عن جرائمها في العراق، لكن خنفر أظهر دبلوماسية رفيعة في رد تلك الاتهامات، مستغلاً حادثة نشر وثائق تفضح الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، والوزير الأول البريطاني السابق توني بلير، باستهداف قناة الجزيرة أثناء غزو العراق. ومن العدوان على غزة، مروراً بالانقسام الفلسطيني الداخلي، وصولاً إلى الثورات العربية، لم تتوقف الانتقادات التي طالت الجزيرة من قبل بعض الأنظمة العربية، ومن قبل محلّلين اتهموا القناة بعدم الحياد، والتعامل بمنطق مزدوج، والكيل بمكيالين في تغطية الثورات. هكذا اتّهمت المحطة بدعم الثورتين التونسية والمصرية، والتغاضي عن ثورة الشارع البحريني، والمضي في دعم الانتفاضة السوريّة إلى مرحلة التزوير والتحريض... الرأي الآخر وال CIA أما الاتهام المباشر الأول الذي تلقّاه وضاح خنفر بالتعامل مع الاستخبارات الأمريكية، فوجّهه إليه القيادي في منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات، قائلاً: إن خنفر يتعاون مع مندوبين للاستخبارات الأمريكية تحت غطاء صحافي! وجاء هذا الاتهام بعد نشر الجزيرة وثائق تفضح التواطؤ بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي. وبموازاة ذلك، تواصلت معارك وضاح مع زملائه في القناة، وبقدر ما كان يحصد دعماً رسمياً، كان يخسر زملاء وحلفاء سابقين استقالوا من القناة، متهمين إياه بالانحراف عن خطها التحريري. وأبرز المستقيلين في الفترة الأخيرة حافظ الميرازي، ويسري فودة، وصولاً إلى غسان بن جدو، وعدد من المذيعات مثل لونة الشبل، ولينا زهر الدين.... بينما لم يفهم كثيرون إلى اليوم سر إقصاء سامي حداد وتوقيف برنامجه. وفي مواجهة تلك الاتهامات، كان المدير العام لشبكة الجزيرة ينكر ويرفض حصره في غطاء سياسي معيّن، أو تهمة إقصائه لزملائه، قائلاً: إنه كان يتعامل مع صحافيين من أكثر من خمسين جنسية، معتمداً على كفاءة كل منهم، إلى جانب عودة صحافيين سبق أن استقالوا من القناة، مثل إبراهيم هلال، وأحمد الشيخ، وجمال ريان وآخرين. وضاح خنفر، الرجل الهادئ، ذو اللحية الخفيفة، أظهر طيلة السنوات الماضية حنكة دبلوماسية في التعاطي مع الأزمات السابقة. في المقابل، فإن المسؤول الملتزم دينياً لم يجد يوماً حرجاً في التعامل مع الأمريكيين والإسرائيليين ومحاورتهم في واشنطنوالدوحة ودول عدة، بل إنّ الجميع يذكر مصافحته لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، التي اعترفت بقوة وتأثير القناة في عهده، كما ترددت أنباء لم نتمكّن من تأكيدها، عن استقباله رئيسة حزب كاديما الإسرائيلي تسيبي ليفني في مكتبه في الدوحة. إذاً المراسل الحربي الذي أثبت أنه يجيد التعاطي مع التناقضات، وقف في مواجهة تهمة موثقة، قد تكون الأكثر إحراجاً في مسيرته المهنية، فهل سيفلت مجدداً؟ أم أن موقع ويكيليكس الذي أحرج سياسيين بارزين وعدداً كبيراً من الحكومات والأنظمة، سيضع حداً لطموحات رجل حقق الكثير من الإنجازات و... الأعداء؟