يجوب حمام الحرم ويحط رحاله حيث شاء ، في أطهر بقعة على وجه البسيطة ، يختال بحسنه فيلفت أنظار قاصدي البيت العتيق، ألفته البشر، فاستأنس بهم، فتراه في ساحات الحرم والطرق المؤدية إليه يروح ويغدو لا يخشى من حوله شيئاً ، ولا يحمل هم قوته وإطعام فراخه. حمام الحمى كما يسميه أهل مكةالمكرمة تطير في جماعات على مرأى من قاصدي البيت ،في محيط المسجد الحرام وحول مآذنه الشامخة مطمئنة بأمن البيت وحرمة صيدها وتنفيرها، فسبحان من خلقها. وبين جموع الحجاج والمعتمرين في ساحات الحرم والمسالك المؤدية إليه تهبط أسراب الحمام ، تلتقط ما نثر لها من حبوب في مشهد سيظل محفوظاً في الذاكرة لارتباطه بأشراف مكان . ينفرد حمام الحرم بجنسه غير المختلط مع غيره ، فمن رأسه إلى رقبته شديد الزرقة والبروق ، وطرف جناحيه وذيله أسود ، والجزء المتبقي من جسده لونه أزرق يميل إلى البياض،وفي جناحيه وذيله خطان أسودان لا يوجدان في غيره ، فهما له بمثابة الماركة المسجلة. ويندر أن تقرأ لرحالة أو أديب وصفاً للبيت الحرام دون أن يعرج في وصفه على حمام الحرم والخوض في تفاصيل حياته ، فذكر محمد لبيب التبنوني المصري - ت 1357 ه - في كتابه الرحلة الحجازية ما نصه : " حمام الحرم المشهور بحمام الحي يملأ سطوح الحرم ومنافذه وطاقاته ، فتجده معششاً هنا وهناك ، ويجتمع زرافات في جهات كثيرة من صحن الحرم ، وعلى الخصوص في الجهة الشرقية ، وله فيها مكان مخصوص فيه أحواض لشربه ، وبجواره مكان يلقى فيه حب القمح المرتب له في أوقات مخصوصة . وكثيراً ما تراه في الجهة الغربية ، حيث يوجد غير واحدة من فقراء القوم يبعن حب القمح للحجاج والزوار بقصد إلقائه إلى جيوش هذه الحمامات المستأنسة التي تكاد ترفرف على رؤوس الناس لأنها لم تعرف منهم في حياتها إلا كل لطف وأنس . وليست هذه الخصيصة قاصرة على نوع الحمام بل كل حيوان دخل الحرم فهو أمن ، .. وانفراد الحمام بوجوده في الحرم لا أظنه إلا لسهولة أنسه ، وقلة جفائه ". الحديث عن حمام الحمى ومشاهدته تجاوز دائرة الحجاج والزوار لينقل محلياً وعربياً وعالمياً عندما جعلت الصحافة منه عنواناً لتقاريرها المصورة،وتناولته القنوات المرئية تحكي قصة ذلك الطائر الآمن وعلاقته بالمسجد الحرام. ولئن تمتعت الأنظار بهذا الطائر الجميل ودونت ومضات آلات التصوير تلك اللحظات ، فإن أحرفاً فاضت بها ألسن الشعراء تصفه وتتغنى به ، وضربت به الأمثال. وللمكيين قصة عشق واهتمام بهذا الطائر، فهم في تعايش أزلي معه ، يكرمونه بالسقيا والطعام ، فمنهم من خصص له مكاناً لإعاشته ، وآخرون اعتادوا على إطعامها في أماكن تجمعها التي راج حولها باعة الحبوب وأصبحت مصدر رزق لهم. وكما قالت العرب : " آمن من حمام الحرم، وآلف من حمام مكة " ، فقد انتشر الحمام داخل مكةالمكرمة بأعداد هائلة قد تفوق سكانها، كونها آمنة من القتل والتنفير بحرمة المكان الذي انتشرت وتكاثرت فيه ، وجاء في حديث رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ - : ( إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي , وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ؛ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ , وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ , وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ، وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ )). في منظر مألوف ، وبدون استئذان يحل الحمام ضيفاً على سكان مكةالمكرمة ، في الطرقات والأزقة ، ويتخذ أسطح البنايات والفجوات أعشاشًا له ، فحرمة تنفيرها تستوجب إكرامها وعدم إزعاجها. ومنذ عدة سنوات وفرت أمانة العاصمة المقدسة ستة أبراج حول جسر الحجون المجاور لمقابر المعلاة ، وترى العديد من الأشخاص يغدقون عليها الطعام والماء في مشهد يتكرر صباح كل يوم. لم تكن عناية أهل مكة أو الزوار والحجاج بالحمام حديثة إذ هي امتداد لمن سبقهم في العصور المتقدمة ، وحفظت بعض الكتب أوجه العناية في الماضي ، فذكرت أنه كان في الجهة الشرقية من مكة ، تحت جبل أبي قبيس زمن الجاهلية بئر يقال لها بئر الحمام ، يجتمع عندها كثير منه ليشرب ثم يذهب حيت أراد ، كما أن الدولة العثمانية خصصت له كل عام كمية من الحبوب تنثر له في أرض المسجد ، ونقلت بعض الكتابات تخصيص اليمنيين لوقف لشراء الحبوب وجلبها وقت الحج لحمام الحرم. ولعل أبرز ما قدم في هذا الجانب ما نشر مؤخراً عن تخصيص مواطن لوقف في مكةالمكرمة يعود ريعه لحمام الحرم المكي ، وقيد في سجلات إدارة الأوقاف بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد. الروايات تباينت في أصل حمام الحرم فذكر الأزرقي في كتابه أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار‘ أن أصله من نسل طير الأبابيل التي رمت أصحاب الفيل ، وقال السيوطي إن أصلها من الحمامتين اللتين عششتا على غار ثور أثناء هجرة النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة، ومنهم من أرجع أصوله إلى سلالة أوروبية ، إلا أن ذلك لم يثبت. يعيش الحمام في تجمع هو الأكبر عالمياً في رحاب المسجد الحرام آمناً مطمئناً ، تسمو في التعايش معه سجايا الدين الإسلامي الحنيف بالرفق بالحيوان ، فضلاً عمّا خص به لحرمة المكان ، مقارنة بتجمعه في ميدان ( الكونكورد ) الباريسي ، وساحة الطرف الأغر ( ترافلغار سكوير ) بلندن التي سنت بلديتها قراراً قبل نحو عشر سنوات بإلغاء بيع الطعام للحمام ، وعُلقت في واجهة الساحة لوحة كُتب عليها بخمس لغات بما فيها العربية ( لا تُطعموا الحمام.. الحمام يسبب الإزعاج ويضر بالساحة ). وفي الشريعة الإسلامية لا يجوز تنفير أو قتل حمام الحرم سواء للمحرم أو غيره ومن قتله فعليه فدية مقدارها شاة ، وهناك تفاصيل شرعية بالنسبة للفراخ والبيض. قصة الحب والسلام التي ارتبطت بهذا الطائر تتجلي بحق في مكةالمكرمة ، ترحب بمن حل بها ، وفي سلم مع من حولها باختلاف أجناسهم. إضغط على الصورة لمشاهدة الحجم الكامل