لم تكن المدرسة النبوية تُخرِّج قيادات مركزية متمسكة بمناصبها وقراراتها فحسب ! بل كانت تُخرِّج القيادات التي تؤمن بمبدأ نفع الشعوب أولاً على يدِ أيَّ قائدٍ كان . لقد زرع النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس الصحابة رضي الله عنهم الإيمان بمبدأ تجديد الدماء وتنوع القيادات وأصحاب المهام ، سواء كان ذلك في حياتهم الدعوية ، أو في قياداتهم للمعارك ، أو في مناصبهم الدنيوية ، أو في تعليمهم للعلم ، بل حتى في مكاتباته للملوك ، وإبرام عقود المصالحة والعهود مع أعداء الدين ، فكلما رآى من الصحابة من هو أهل لهذه المهمة قدمه . فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يكتب صلح الحديبية ، وزيد بن ثابت يكتب الوحي ، وحسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم ، وثابت بن قيس خطيب النبي صلى الله عليه وسلم ، وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن أبي رواحه يتبادلون الراية والقيادة في معركة مؤتة ، ثم يأخذها خالد بن الوليد ليقود المعركة لأنه أقدر على إدارة شؤونها . ويُنوع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين رُسُلِه إلى الملوك ، فدحية الكلبي يرسله إلى قيصر ملك الروم ، ويرسل عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس ، ويرسل عمرو بن أميه الضمري إلى ملك الحبشة مع وجود غيرهم من الصحابة أسن وأقوى في العلم والحجة . وعندما يخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سفر يجعل على المدينة صحابي يختلف عن الذي قبله ، ويرسل معاذَ بن جبل وأبا موسى الأشعري لتعليم أهل اليمن ، ويجعل بلالاً مؤذناً في المدينة وأبا محذورة مؤذناً في مكة ، مع وجود غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، وهكذا . أيها القارئ .. إن الشيخوخة لم تعد هاجساً مخيفاً في عمر الإنسان فحسب تعيقه عن الجد والنشاط ! بل أصبحت في هذا الزمن هاجساً مخيفاً لكل بلد يطمح للتقدم والتطور والرقي في مصاف الدول التنموية وتلبية رغبات شعوبها ؛ بسبب قيادات إدارية متمسكةٍ بمنصبها الإداري . إن العمل الاجتماعي أو التعليمي أو الدعوي أو الصحي أو الإقتصادي أو غيرها من نواحي الحياة ، إن لم يكن قائماً على مبدأ _ تجديد الدماء _ وتنوع القيادات في هذا العمل وإلا أصبح التفكير واحد ، والمنهجية واحدة ، والقرارات تأخذ طابعاً واحداً ، ويبقى هذا العمل دون إنتاج لعدة سنوات على حساب السرعة والتقدم والحصول على النتائج المأمولة في هذا العمل . أيها المبارك .. إن الله سبحانه لم يجعل صفات القائد الكاملة في شخص واحد من البشر ! إلا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ، وأما باقي البشر فقد قَسّم سبحانه القدرات بينهم ، فهذا قائد عنده الإهتمام بالجانب الإداري ، وهذا قائد عنده الإبداع في إدارة المال ، وثالث عنده القدرة على استغلال وسائل التقنية في تطوير العمل ، ورابع عنده الاهتمام بالجانب الإحصائي وتعدد الإنجازات ، وخامس عنده الإهتمام بالجانب التحليلي ، وسادس عنده القدرة على تكوين علاقات مع كبار الشخصيات والتجار ... إلخ . فعند تدوير العمل الإداري وتجديد القيادات بين الحين والآخر يجعل هذه القطاعات الحكومية والخيرية تستفيد من كل القدرات التي خلقها الله في عباده _ ممن يحمل صفات القيادة _ وإلا تعطلت منافع هذه القطاعات وأصبح العمل يسير على منهجية قيادية واحدة . فكم نشاهد في الدوائر الحكومية أو الجمعيات الخيرية من القيادات التي قضت في رئاسة هذه الدائرة عدة سنوات _ وتشكر على ذلك _ ولكن دون زيادة في الإنتاج أو تطور في العمل ! بل إنك لتعرف سير العمل في هذا القطاع الحكومي أو الخيري من خلال الصفات التي يحملها قائد هذا القطاع . أيها القائد الإداري .. إن تدوير العمل الإداري وتنوع القيادات في كل مرة لا يعد قدحاً في هذا القائد الذي ترك منصبه ، وإنما هي إيجابية له حيث فتح المجال لقيادات مغمورة بين الناس ! بل يعطي كل قائد الفرصةَ في الإبداع والتطوير والتجديد في قيادته لهذا العمل ؛ حتى يُسَطّر في التاريخ من القيادات الإنتاجية والإبداعية . فعند تنوع القيادات الإدارية يجد المواطن الثمار المطلوبة ، وعند بقائها دون تجديد يجد التأخر وعدم الرقي ، فمثلاًَ : في الجانب الإقتصادي الذي هو شريان الحياة _ بعد الله عزوجل _ تجد أن الاستفادة من بعض القيادات الإنتاجية وأصحاب الضمائر الحية يعطي الجانب الإقتصادي توسعاً أكبر في مجالات الإقتصاد وإتاحت الفرص الوظيفية للمواطنين . وفي وزارة الصحة يرى المواطنون كثرت المستشفيات والمراكز الصحية المتقدمة ، وجودة الكوادر الطبية والفنية ومواكبت التطورات في الطب الحديث ، عكس ما هو مشاهد من ضعف الكوادر في بعض المستشفيات . وفي وزارة النقل يجد المواطن في الطرق السريعة التي تربط بين المدن والقرى والهجر الراحة في جودة الإنتاج وسهولة السير عيها ، بخلاف ما هو مشاهد من ضعف الإنتاج وكثرت التشققات فيها. وفي وزارة الشؤون الإجتماعية تجد عدم استغلال وسائل الإعلام في التعريف بالرسالة الإنسانية التي تقدمها ، وهذا ما جعل المواطن يخفى عليه الفروع التي تعمل تحت مظلة هذه الوزارة ؟ مثل ( دار التوجيه ، دار التربية ، دار الملاحظة ، الرعاية الاجتماعية ، ومراكز التنمية ... إلخ ) بخلاف ماهو مشاهد من الإقتصار على مجلة شبه سنوية يغلب عليها الصور والأخبار ! فهذا لا يزيد في التقدم والتطور شيئا . وفي وزارة الشؤون البلدية والقروية كذلك ، وما أكثر ما يشاهد المواطن من كثرت الحفر وسوء السفلته وقلة الصيانة والأشجار المضرة بصحة المواطن ، والتعاقد مع بعض الشركات التي يبرأ المواطنُ إلى الله أن تكون ناصحة في عملها ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو عثرت دابة في العراق لظننت أن الله سيسألني عنها : لِمَ لَمْ تُسو لها الطريق ؟ وفي إدارة الأوقاف والمساجد تجد أن أكثر الوظائف البسيطه ( مراقب مسجد ، أو خطيب احتياطي ، أو فراش ) طار بها بعض رؤساء الأقسام لهم أو لأبنائهم أو لأشخاص يعرفونهم ، إلى جانب وظائفهم الرسمية ، وهذا أمر مشاهد ومعروف ! وكثير من الشباب توقف عن الزواج لأنه لم يجد وظيفة يعتمد عليها بعد الله عزوجل . وفي الإدارة المشرفة على إعانة حافز من الظلم والمن بها على الشعب ما يجعل المواطن يخجل من الحديث عنها ، فمرة تقطع الإعانة ، ومرة يخصم منها ، ومن تجاوز الخامسة والثلاثين لا يصرف له !!. وفي بعض الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في المناطق الكبيرة في المملكة ، تجد أن أعضاء مجلس الإدارة من أهل السن والشرف والعلم أبدعوا في قيادتهم لعدة سنوات وقدموا للإسلام قدراتهم التي أعطاهم الله في هذا المجال ، لكنه ظل تفكير واحد ، ونمط واحد ، ومنهجية واحدة دون تجديد ! ولا أدل على ذلك من حاجة الدور النسائية وحلق التحفيظ إلى الدعم المادي إلا أكبر شاهد ، مع أن دعم هذه الدولة المباركة وأوقاف المحسنين التي يعود ريعها لهذه الجمعيات الخيرية تقدر بالملايين دون مبالغة ! ولكن لما كانت القيادة تسير وفق منهجية واحدة ، وهي ( شراء الأوقاف الخيرية ) وعدم بذل الأموال على الدور النسائية و حلق التحفيظ تعطلت منافع هذه الأوقاف الخيرية ، وأصبحت هذه الحلق والدور كالعير في البيداء تحمل على ظهرها الماء وهي عطاش ! لولا صبر واحتساب بعض المعلمين والمعلمات في سبيل الدعوة . قبل أن أختم .. كلمات عظيمة خرجت من فم الحبيب صلى الله على الله عليه وسلم عندما قال : ( إنها أمانه وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها) رواه مسلم. أسأل الله بمنه وكرمه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وأن يجعلنا جميعاً مباركين أينما كنا ، والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . صالح بن محمد الطامي للاطلاع على مقالات سابقة بقلم الكاتب : http://salehtamy.blogspot.com/