الأثر الفكري الذي خلفته أطروحات المفكر محمد عابد الجابري يعد هو القاسم المشترك الذي يجمع التيارات الفكرية في السعودية ؛ إذ إن تلك الأطروحات الجابرية أحدثت تحولات عميقة في نسيج الفكر الإسلامي ، و في نسيج الفكر التحديثي في السعودية على حد سواء . ويكاد الجابري أن ينفرد بهذا الأثر المشترك بين التيارات ؛ إذ إن التيارات الفكرية في السعودية في مسيرتها كانت جزرا معزولة ؛ كل تيار واقع تحت تأثير أطروحات مفكريه الخاصين ، مما ولد روح الخصام ، والعداء ، و التوجس بين أصحاب التيارات الفكرية في السعودية . وبقراءة تاريخية سريعة لمسيرة التيارات الفكرية يمكننا أن نلخص التيارات الفكرية المؤثرة في الثقافة السعودية بتيارين ؛ التيار الإسلامي ، والتيار التحديثي ، هذان التياران ظلا تحت تأثير مفكرين ينتمون أيديولوجيا إلى فكر التيار نفسه ؛ ففي الخمسينات والستينات كان المؤثر الأبرز في الفكر الإسلامي أطروحات حسن البنا ، ومصطفى السباعي ، ومجموعة من المفكرين الإسلاميين ، والمؤثر الأبرز في الفكر التحديثي حسين طه ثم لاحقا أطروحات المفكرين اليساريين ، وابتداء من أواسط السبعينات أصبح سيد قطب بأطروحاته الفكرية خاصة في ( ظلال القرآن ) ، و( معالم في الطريق ) هو المؤثر الأبرز في فكر التيار الإسلامي في السعودية ، وهذا ما أحدث لدى التيار الإسلامي قطيعة مع العصر ؛ إذ إن فكر سيد قطب يقوم على فكرة الاغتراب عن الواقع فهو يرى الحضارة المعاصرة جاهلية ورجسا يجب اجتنابها ، و يجب اعتزلها شعوريا ، ثم السعي إلى استبدالها . وأصبح أدونيس و أطروحاته في كتابه ( الثابت والمتحول ) هو المؤثر الأبرز في فكر التيار التحديثي ، وفكر أدونيس يدعو للقطيعة مع التراث ؛ إذ إن التراث – في نظره - أدى دوره في الماضي وانتهى فيجب تجاوزه ، والقطيعة معه ، وهذا ما أحدث غربة ثقافية لدى أصحاب التوجه التحديثي عن واقعهم وتراثهم ، وأدى لتحجيم دورهم في المجتمع . ولم يستطع أي مفكر أن يقتحم بأطروحاته حصون التيارين معا ، حتى جاء الجابري وطرح كتاب ( نحن والتراث ) ، ثم مشروعه ( نقد العقل العربي ) بأجزائه الأربعة ( تكوين العقل العربي ) ، و( بنية العقل العربي ) ، و( العقل السياسي ) ، ثم لاحقا ( العقل الأخلاقي) ، وبقية كتبه خاصة ( المشروع النهضوي العربي ) ، و( إشكاليات الفكر العربي المعاصر ) ، و ( قضايا في الفكر المعاصر ) ، و قد لخص الجابري عيوب التيارات الفكرية في العالم العربي ، ورأى أنها كلها تبني فكرها على الاستيراد ؛ فالتيارات التحديثية – من وجهة نظره – تقوم باستيراد أفكارها من الغرب ، مع القطيعة مع التراث ، والتيارات الإسلامية – من وجهة نظره – تقوم باستيراد أفكارها من التراث مع القطيعة مع الفكر المعاصر ، ومن هنا طرح مشروعه الفكري متفاديا عيوب التيارين ؛ وذلك بالتأسيس على التراث ، و في الوقت نفسه الاستفادة من الفكر الحديث ، فقام بإعادة قراءة التراث ، و تحليل نظم المعرفة فيه ، والبنية الأساسية التي تكوِّن تلك النظم ، وفي المقابل إعادة قراءة الفكر العربي الحديث ، وعلاقته بالحضارة الغربية ، والبحث عن إشكالياته ، ومحاولة التأسيس لمشروع نهضوي متصالح مع التراث ، ومع الفكر الحديث . وبداية من أوائل التسعينات الميلادية نجحت أطروحاته الفكرية في مشروعه ذلك في إحداث تأثير عميق في بنية الفكر لدى قطاع كبير من أبناء التيار الإسلامي ، و في بنية الفكر التحديثي في السعودية على حد سواء ؛ فأما تأثيره في الفكر التحديثي في السعودية فيكمن في إعادة الاعتبار للتراث لدى أصحاب التوجه التحديثي ، ورسَّخ لدى أصحاب هذا التيار مقولة حتمية الانطلاق من التراث في تأسيس أي مشروع نهضوي للأمة ، وساهم في بث روح الاعتزار بمنجزات الحضارة الإسلامية ؛ وذلك بالكشف عن منجزات تلك الحضارة ، ومساهمتها المعرفية في مسيرة الحضارة الإنسانية وأما تأثيره في الفكر الإسلامي في السعودية فيكمن في لفت نظر أصحاب هذا التيار إلى إعادة قراءة التراث ، وإعادة قراءة التاريخ الإسلامي ، وإلى الكشف عن الأثر الإنساني في تدوين التراث ؛ مما ساهم في نزع القداسة في النظر إلى التاريخ ، و إلى الشخصيات التاريخية غير الأنبياء والرسل عليهم السلام ، وهذا بدوره خلق الروح النقدية ، وعزز ثقافة التساؤل في بنية الفكر الإسلامي في السعودية . وفي المقابل خلق روح تصالحية مع الفكر الحديث ، والاستفادة من منتجات ذلك الفكر في فهم الواقع ، وقراءة الأفكار ، والتراث ، والتاريخ . هذا الأثر الذي أحدثه فكر الجابري في مسيرة التيارات الفكرية المختلفة في السعودية يعد حالة فريدة لم يستطع أي مفكر عربي آخر أن يشاركه في ذلك د سليمان الضحيان