رحمك الله : لست أول محزون عليك، ولن أكون الأخير ... فأنت رجل أمة، وحفدتك لا ينتهون ... لك في كل بيت بقايا صوت، وآثار مداد ... وما من قرطاس طويناه أو بسطناه ألا وحمل لك أو حمل عنك . رحمك الله : لست أول من رثاك، ولن أكون الأخير ... فالحزن الذي ولد بموتك لن يموت إلا بميلاد (جبرين) جديد ... رحمك الله : عشت بهدوء مثلما كنت تتكلم بهدوء ... وحتى حين أردت أن تموت متّ بهدوء ... تركتنا حتى ننام في الظهيرة ثم طويت سجادتك المبللة بالدمع ومشيت ... مشيت إلى ربك الغفور الرحيم ... رحمك الله : اتفق معك أناس، واختلف فيك آخرون ... فلم تعبأ بهؤلاء ولا أولئك ... كنت تمشي منذ الصغر إلى الآخرة، وكانت عيناك معلقتين في السماء ... ورغم ذلك لم نسمع قرع نعليك وأنت تمشي ... لأنك تحب المشي في الليل بعدما ننام ... رحمك الله : كنت ترتدي عباءة بلا رتوش ... وتطل على الناس بعينين شاحبتين ... صوتك يتقطع ويداك ترتعشان ... لكن كلماتك كالجبال نقيم في كهوفها كلما داهمنا طوفان ... تمشي الهوينى لكنك تسبقنا... وتنظر كثيرا إلى موضع قدميك لتعلِّمنا قيمة الدنيا وحقيقتها ... ومن وراء ثيابك الكريمة كانت تسكن روحك التي لا تسكن ... رحمك الله : منذ (دشنت) مرحلة الشباب وحتى عانقت آخر الأنفاس كنت تركض ... من مسجد إلى آخر ... كنت تركض ... ومن منبر إلى آخر ... كنت تركض ... ومن درس إلى آخر ... كنت تركض ... عرفت الآن لماذا كنت تركض ... عرفت الآن ... والناس كلهم قد عرفوا ... رحمك الله : تغربت عن زوجتك وأولادك مثلما تغربنا وأكثر، لكنك عدت بالغنائم ونحن لم نعد ... لم تستسلم لحرارة الصيف مثلما استسلمنا... ولم تنكمش تحت أقدام الشتاء مثلما انكمشنا... ولم يلهك حسن زمان الربيع مثلما ألهانا... ولم يؤذك اعتصاف الخريف مثلما آذانا ... تتغير الفصول والأزمنة وأنت أنت لا تتغير ... رحمك الله : عشت في البدايات حيث المهالك في الأرزاق والدروب ... وعشت في زمان العولمة بما فيه من ترف و(قرف) ... تغير كل شيء حولك وظللت أنت كما كنت ... هل كنت أكبر من الأزمنة والأمكنة ؟ لست أدري !! لكنك لم تكن يوما أصغر منها . لم تكن يوما أصغر منها ... رحمك الله : كنت تتحسر علينا أكثر منا فتنصحنا ... وتخشى علينا أكثر من خشيتنا لأنفسنا فتعوذنا ... تغسلنا من اليأس كلما دنستنا المحن ... وتحذرنا من الغرور كلما راقصتنا المنح ... تتعدد أمراضنا ونتعدد نحن ... وتظل أنت الطبيب الطبيب ... رحمك الله : لم تكن تخشى غضبتنا حين كنت تنطقها : (حرام / حرام) ولم تكن ترجو رضانا حين كنت تنطقها (يجوز / يجوز) يتحشرج صوتك بالفتيا لأن قلبك يتحشرج بها ... وتتنحنح كثيرا قبل أن تنطق، لأنك ترجو الخلاص ... رحمك الله : لم يذرف الإعلام دمعة على قبرك كتلك التي ذرفها على قبور رواد الغناء والسينما ... ولم تفرد لك قنوات الأخبار تقارير مصورة كما أفردت لهم ... لكنك تعلم أن في زوايا البيوت عجائز طيبات مطيبات ... تربين على صوتك الأجمل الأجمل ... وعشن زمنا في فضاءات زهدك الممرع ... هنّ اليوم يتلفعن بأسود الكلمات ... ولو استطعن لرطبن قبرك بالعبرات والعبارات ... رحمك الله : كنت تعظنا حيا ... وها أنت تعظنا ميتا ... كنت تنظر إلينا وأنت محمول فوق الرقاب ... تسابق خطواتنا إلى القبر ... لتقول لنا شيئا قبل أن تغيب ... رحمك الله : قبرك ذواكرنا ... وستظل حيا فينا ... سندعو لك كلما مرّ بنا صوتك ... وكلما عانقتنا رسائلك ... رحمك الله ... رحمك الله ... خالد بن أحمد الرفاعي كلية اللغة العربية – الرياض [email protected]