موقفان مرا علي خلال الأيام الماضية , أحدهما متجه إلى أقصى اليمين والآخر إلى أقصى اليسار , لكنهما جعلاني أطرق رأسي مليا في نوبة من التفكير الجاد في وضع هذا العالم الذي نعيش فيه ويعج بعدد من المتناقضات التي لا يمكن أن يصدقها عقل باطن ولا عقل ظاهر. الموقف الأول كان لزميل في العمل دخل علي صباح يوم السبت من الأسبوع الماضي بعد أن دلفت إلى مكتبي صباح ذلك اليوم بدقائق ، وعلى غير العادة لمحت في عينيه دمعة ظاهرة لا تود السقوط على الأرض , فتوجه إلى مباشرة إلي وعانقني وهو يتمتم بعبارات غير واضحة , لكنني فهمت من خلالها أنه مودع لنا , ليس إلى الدار الآخرة طبعاً لكنه بالنسبة له أشد وأنكى ، ذلكم أنه صبيحة هذا اليوم سيغادر الكرسي الذي جلس عليه مدة أربعين عاماً بعد أن أحيل إلى التقاعد , وفي نفس الوقت قضى من عمره ستين عاماً عداً ونقداً , لكن المشهد لم ينته بعد , ذلكم أن وداعه لزملاء العمل طبيعي جداً إنما السؤال ما سر البكاء الشديد والدموع الغزيرة ونبرة الحزن التي تلف وجهه ؟ إن كل ذلك يترجمه جوابه حينما سألته سؤلا واحدا ، فقلت له ما يبكيك ؟ قال أبكي لأني لا أعلم أين سأذهب وكيف أقضي وقتي ؟ ثم كيف سيقوم من بعدي بالعمل والذي أخشى أن لا يستطيع القيام به؟ أما الموقف الثاني فهو مقال رصين لسعادة الدكتور /عبدا لعزيز الخضيري وكيل إمارة منطقة مكةالمكرمة في جريدة الاقتصادية قبل أيام , وفيه يتحدث عن أهمية تدوير المناصب , وخصوصاً القيادية , بل إنه أمعن في ذلك وفصل فيه وأشار إلى وكلاء الإمارات والوزارات وكأنه يتحدث عن نفسه شخصياً , و يقول لنفسه كفى ، وهذا المنطق الواقعي والواضح ليس بغريب على هذا الرجل وقد تربى في مدرسة خالد الفيصل . أعود فأقول : إن الحديث عن الدكتور عبدا لعزيز الخضيري القادم من وزارة البناء والعمارة ، وزارة الشؤون البلدية والقروية حتى أصبح ما يشع به سلوكه وما يدلقه لنا قلمه السيال موئلا للحكمة والأدب الجم والخلق الرفيع والتواضع بالإضافة إلى حسن المنطق والواقعية مما يجعل الحديث عنه لا تكفي له صفحات . لكن الذي يهمني هو مدى الفائدة من هذين الموقفين ؟ وما هو الذي يرى القارئ الكريم انه هو الأسلوب الصحيح ، حيث أن زميلي في العمل كان يبكي بحرقة لأنه لم يخطط لترك هذا الكرسي الوثير , بل كان يعتقد أ نه مدير عام البشرية والناس ولم يعد العدة لنفسه بعد ترك الكرسي , بل وخوفه أن من بعده لا يستطيع القيام بالعمل خير قيام ( وهذه مصيبتنا ) في هذا الزمن مع الأسف , وكأننا دائمون بعكس الغربيين الذين يخطط الواحد منهم قبل التقاعد بخمس سنوات على الأقل ماذا سيفعل , ونحن إذا تقاعد أوشك أن يستقبل المعزين , في الوقت الذي يطرح الدكتور عبدا لعزيز الخضيري رأيا جميلاً حول أهمية تدوير المناصب وإعطاء كل رجل جاد وعملي ومخلص الفرصة لكي يقدم ما لديه حتى لو كان صاحب المنصب المغادر عاشقاً للكرسي , بل وحتى لو كان في موقع يسيل له اللعاب , لكنها سنة الله في الحياة ، حيث يفضل أن يتم ذلك كل خمس سنوات أو قريب منها , وهذا بدوره يجعلنا نلتفت ذات اليمين وذات الشمال لنرى الديناصورات المحنطة , هنا وهناك وكأن ليس في هذا البلد إلا هذا الولد ، مما سبب أزمة في التوظيف وقضى على فرص العمل ، بالرغم أن التدوير فرصة سانحة لتجديد الدم وتطوير المهارات وتغيير الأساليب ، وهذا يذكرني بموضوع قرأته قبل فترة عن أجراء قام به أحد مدراء الشركات العالمية الذي تسلم عمله الجديد , والذي كان لديه بضعة عشر رئيساً لعدة أقسام في الشركة التي تولى زمامها ، فلما باشر العمل أصدر قراراٍ فورياً بمنح إجازة لمدة شهر لكل رؤساء الأقسام كما اصدر امرأ لمستشار خاص له ليرفع له تقريرا عن الأقسام التي تعطلت بسبب غياب رؤسائها , والأقسام التي سارت وتيرة العمل بها كما هي دون أن تتأثر بغياب رئيسها ، ولما عرض له المستشار اصدر أمرا بفصل كل رئيس قسم تعطل العمل بغيابه والتجديد مع رفع المرتب والتشجيع لرئيس القسم الذي استمر سير العمل وكأنه موجود ، وهنا مربط الفرس اسعدا لله أوقاتكم . عبد الرحمن بن محمد الفرّاج الإيميل [email protected]