عندما قال سلامة موسى من قبل : أنا شاب في الستين معلقاً على قول بعض ناقديه بأن أفكاره مراهقة حيث تتماهى مع أفكار شباب اليوم فهو يعني أنه متحرك ومتفاعل مع الأحداث المعاصر لها ، فهو يعيشها ويعيها ويتفاعل معها ، وكذلك يحاول أن يتعاطى معها كما كان في مقتبل عمره مفعماً بالحماس والتوق إلى التغيير والتبدل من أجل أفق أوسع في الحياة، فقد كانت سن الستين في الفترة التي قال فيها سلامة موسى جملته تعتبر سن الشيخوخة لكونها سن التقاعد وهو في العرف السائد (متْ قاعداً) . الكاتب الأمريكي هنري ميلر يقول: (أنا شاب في الرابعة الثمانين) عبر حديث مسجل بينه وبين الكاتب البلجيكي بسكال فريبوس الذي كان مولعاً بالكاتب منذ بداياته في تتبع لإبداع وتذوق الكتابات اللافتة من المبدعين في العالم حيث الثقافة المشاعة لمن تعلّق بها ما عليه إلا أن يلج الأبواب المشرعة دوما . ف (في ضيافة ميلر) وهو عنوان الكتاب الذي أصدره بسكال فريبوس متضمناً كامل الحديث الذي أجراه معه على مدى ستة أيام في اوقات مختلفة، عمل الكاتب على أن يحول الحديث إلى مايشبه الرواية في التقديم والتمهيد والحوار والشخوص المتداخلين عبر الحضور مثل الخادمة، والجار، والسكرتيرة ، والمرافقة للكاتب ذاته ليدخل عالم ميلر ليس محاوراً فقط بل مشارك ومجيب عن الأسئلة التي قلبها ميلر إليه مما اضطره للإجابة بعمق أمام هذا العملاق في تبادل معرفة تقوم على التفاعل حول المواضيع المتطرق إليها من قبل الطرفين. لمَ لا نلتقي؟ يقترح عليّ هنري ميلر في إحدى رسائله . بعد أسبوعين وجدت نفسي عنده . هكذ يبدأ بسكال كتابه الحواري الشيق ، فيشدك لأنْ تسأل كيف ؟ لتأتي الإجابة :كنتُ قد دخلت عالم ميلر الأدبي من خلال باب روايته( مدارالسرطان) وكانت بالنسبة لي رجّة عنيفة وأنا في العشرين من العمر هذه الرحلة في أقاصي التفسخ . هذه اللغة الفجة والمتوهجة التي تنسحق إلى حدود الرغبة .. قرأت كل أعماله من (الوشيجة : الصلب الوردي ) إلى (أرق) وتوقفت عند رائعته ( أعمدة الماروسي ) بعدها كتبت له رسالة ، عشرات الأسطر ، أشكره فيها ببساطة على أعماله وحياته. لم أكن أنتظر أي رد لأنه لم تخطر ببالي أيه إمكانية لمحاورة ميلر . فهو بالنسبة لي يبقى خيالًا بعيداً وأسطورياً ، وعجوزاً خارقاً وهو على بعد خطوتين من الموت مسيجاً بكتبه عن الحياة. بهذه الدقة في وصف الرغبة والرهبة في شخص وإبداع ميلر يسبح بسكال في أخيلته ويطير معها في عوالم إبداعه كقارئ نهم محب وجد ذاته بين سطور كاتبه محلقةً ، وشغوفة بالتحليق الأبدي في عوالمه الموسومة بالواقع الحاد التي تقول دون تردد وتقوم على قاعدة تصور الإحساس دون رتوش، فهو (= ميلر) عندما سأله القاضي أثناء محاكمته : (السيد ميلر ، هل تعتقد أن الكاتب يملك حق قول كل شيء ويكتب كل مايريده في كتاب؟) يقول: تظاهرتُ بالتفكير العميق ، هكذا الرأس بين يدي .. وبعد صمت طويل رفعتُ رأسي وقلت: ( سيدي القاضي ، أعتقد أنه نعم ) مع جوابي ارتفعت تصفيقات كاتب المحكمة من على كرسيه ، وبعد ذلك نزل القاضي عن منصته مَلَكيٌ في زيه الأحمر وتوجه نحوي وعانقني بذراعه وقال: (سيد ميلر أنت منا من أسرتنا ...) عرض ذلك ممسرحاً ليصف أبعاد الموقف ، وما هو الكاتب وكيف يُحترم عندما يَحترم قارئه المتلقي من خلال وضوح ودقة تصويره للموضوع الذي يتحدث فيه ، فهو متحرك متحرر يعي مقدرته، إنه يقول للمكتئبين عندما كان في عيادة محلل نفسي صديق له : ( إنكم تملكون صحة جيدة ، اصرفوا أموالكم من أجل المتعة ولا تضيعوها على أشخاص مثلنا) وكانوا ينصرفون معافين ، فتسبب في انصراف زبائن العيادة مما أغضب صديقه الذي كان يعتمد على دخل عيادته من أمثال هؤلاء المراجعين .. (يتبع)