على مدى التاريخ كانت هناك دول متعاقبة ومتزامنة تتفاوت في قدراتها على مستوى السياسة والاقتصاد والقوة العسكرية والتأثير والتأثر والانتشار, هذه الدول كانت لامركزية في بناءها الثقافي والاجتماعي والمؤسساتي, وأعني ب ( اللامركزية) عدم الصرامة بالنظام وعدم تفرد الدولة بالإشراف والتحكم بكل أشكال الإنتاج الفكري والمادي, على سبيل المثال الدولة العباسية كانت تملك مساحة كبيرة حوت إثنيات عرقية ومذهبية وطائفية, ومع ذلك لا يتواتر النظام نفسه في كل أقاليمها بل المناطق الشيعية لها نظامها الخاص وكذلك السنية وأعياد العرب تختلف عن مناسبات الفرس والكرد, وكل هذه الإثنيات في دولة واحدة, هذا النمط من الأنظمة استطاعت الإثنيات أن تتعايش معه وتبقى. إلا أن الأمر اختلف في القرن العشرين بظهور ما يسمى بالدولة القومية أو الدولة الحديثة ذات الحدود الواضحة المعترف بها دوليا والنظام المكتوب الساري على جميع الأفراد, نتج عن هكذا نمط من الدول سيطرة محكمة لجميع مداخل ومخارج الدولة التعليمية والاقتصادية والسياسية بل حتى أشكال المنازل والعمران, حتى أننا في دولنا العربية نحتاج إلى إذن من الدولة لإلقاء كلمة في مكان عام أو جامع. أي دولة مركزية النظام هذا النمط من الأنظمة يعمل مع مرور الزمن على تفتيت الإثنيات وبالتالي ذوبانها على شكل مواطنين, والمواطن أصغر عنصر من مركب الدولة وعملية التفتيت للإثنيات استدعت ردة فعل مجابهة لعملية الذوبان تمثلت بأشكال متعددة آخذ منها على سبيل المثال التشيع. من الثابت عند الطائفة الشيعية أن الأمام هو صاحب تسيير الأمور في شتى أمور الدولة عندما غاب الأمام الثاني عشر في السرداب كما يؤمنون حصلت معضلة, إذ المخول بأمور الدولة هو الإمام وقد غاب ما الحل إذا؟ جاءت فكرة أن الخمس يكون بيد الفقهاء يتولون فيه أمور الناس والأيتام وأن ليس لأحد أن يتولى مكان الأمام الغائب, ولقد كان حلا مناسبا إذا لا يمكن لأي فكرة دينية أن تبقى بدون كيان سياسي يتبنى مبادئها, إلا إذا استقلت اقتصاديا وهذا ما حصل, حيث أصبح خمس المال الشيعي بيد الفقهاء الشيعة, ولأنه بيد الفقهاء وليس الساسة ولا العامة تكرس ضمانة قوية لنشر المذهب ومساندة معتنقيه و إقامة قوة أهلية عسكرية تخريبية أن احتاجت الطائفة لذلك, بحيث تكون رادعة لأي دولة تريد القضاء على أهل المذهب, فالقوة تحتاج لأي فكرة, وأناس يؤمنون بهذه ا لفكرة, ومال لتدعيم الرجال, وسلاح يدافعون به ويهجمون إذا اضطروا, وهذا النموذج هو ما يحصل لحزب الله وجماعة الحوثي الآن. تعايش الشيعة مع الدولة الا مركزية إحدى عشر قرنا كان يكفيهم الخمس لبقائهم وانتشارهم ومحرم عليهم إقامة دولة والإمام الذي دخل السرداب لم يرجع . في بدايات القرن العشرين جاءت الدولة الوطنية أو القومية كما ذكرنا, وأصبح النظام فيها صيرورة ملزمة لكل أفرادها المواطنين إذ هم واحد في نظامها يجري عليهم مجريات موحدة تستدعي تفتيت مكتسباتهم الخاصة مع الوقت لصالح نظامها العام, هذا الحظر استدعى معه حاجة ماسة لدى الشيعة بحثا عن حل لضمان بقاء المذهب وعدم تفتيته. هنا جاءت فكرة الخميني العبقرية ( شيعياً ) وهي ولاية الفقيه, أي أن الفقيه سينوب عن الإمام الغائب في إدارة شؤون الدولة أي في النهاية يمكن إقامة دولة على أساس مذهبي شيعي يقودها الفقيه نيابة عن الإمام, أي جرت عملية إنفاذ للمذهب الشيعي من الذوبان بإقامة الدولة ذات المذهب الشيعي إذاً الخميني اجتهد عندما كان التغير ضرورة بقاء, وطبق فكرته بشكل ناجح. وكانت فكرة ولاية الفقيه موجودة بالقرن الذي سبق الخميني, لكنها لم تطبق لعدم الاضطرار لها وحورب صاحبها لأنه مبتدع يسلب الإمام المعصوم من مهمته أما وقد جاءت الدولة الحديثة فقد اضطروا لها, وكما يقول أحد مفكري الغرب أنك تستطيع أن توقف أي شيء إلا فكرة آن أوان تطبيقها. سليمان الغنيم