لا يبعد عن ذهن المتلقي اليوم أن ثمةَ فرقاً واضحاً بين الدين والتدين، فالدين نصوص شرعية ثابتة قطعية لا يمكن أن تقرأ إلا كما نُزلت، وهي كما نعرفها القرآن والسنة الصحيحة. أما التدين فهي التزام ( فردي أو جماعي ) مبني على فهم تلك النصوص ، وهذا من فضل القول الذي أحسب أنه لا يغيب على قارئ الآن!. وحين نتأمل هذا التدين / الالتزام ، نجده يتشكل بأنواع مختلفة بدءا من العاطفة ( حبا )، وانتقالا إلى المعرفة ( تعلما)، وتشكلا بالعمل ( عبادة )، وبالتعامل ( سلوكا )، وقد يتجاوز ليصبح مرضا خفيا لا يشعر بها صاحبه، متمثلا بأسوأ ما يمكن أن يصل إليه التدين من تطرف راديكالي، مضرٌ به أولا وبمن حوله ثانياً. وتدين العبادة هو جزء من شخصية المجتمع المسلم، فلا ينفك عنها أبدا، ولكن حين تتحول هذا العبادة إلى عادة، وتصبح الصلاة حركات وسكنات دون أثر، فلا تحقق معنى النهي المنصوص عليه في ( الدين / نص )، ويغدو القرآن كلمات لا تتجاوز الحناجر، في حين يأتي الحث النبوي على أن ألا يتجاوز عشر آيات حتى (فهمها وعمل بها )، وأما الزكاة المطهرة للنفس من حب المال، و رديفتها الصدقة، فقد تكون مغيبة الأثر حين تجثو القلوب ليكون المال (حُبا جمّا )... هذا فإن فطن القلب وتنبه العقل إلى المعنى الروحي لتلك العبادات أدرك شيئا من غاية!. وليس مغنٍ للفرد صلاته وصيامه وزكاته وحجه ... وغيرها من العبادات، مادامت لا تتمثل سلوكا فرديا ناجعا يعكسه المجتمع كله. فإنما صلاته له وعليه، وزكاته منه وله ... أما تدين السلوك، فحقيق بنا أن ندرك غاياته، ونبذل النفيس لتحقيق مقاصده، فما حاجة القلب للأمانة !، وما أجدر اللسان بالصدق!، وما ألزم العقل بالحكمة وإشاعة المنطق !، ولست أحسب مجتمعا أحق من مجتمعنا!. بتحمل المسؤولية، واحترام الآخرين ، وتقدير أعمال المبدعين، ومراعاة الحقوق المدنية والحضارية، والوقوف في وجه الفوضى، وإعطاء الطريق حقه، وقيادة السيارة بوعي حضاري، والالتزام بالدوام ، والوقوف في صف واحد من أجل الحصول على خدمة معينة، والاتزان في القول والعمل، وصدق المخبر قبل صدق المظهر، وقتل حرف ( الواو ) الذي أدمنا عليه، وإشاعة النظام ، ومعرفة القانون، والبعد عن شخصنة القضايا، وعدم التعلق بالأشخاص، وعدم ربط المشاريع الحيوية المتعلقة بالبنية التحتية ببقاء شخص أو ذهابه، والمحافظة على الممتلكات العامة، وألا نختصر الكون بفرد، وألا تكون حقوقنا الخاصة أولى من حقوق المجتمع، وألا تلغى الحقوق بجرة قلم، وأن يكون القياس في تقدير الرجال الأفعال، وأن يعطى كل ذي حق حقه، فلا نحتاج لتقديم معروض للحصول على حقوقنا أو نطالب بها .... وحقيق بنا أن نرفض ذلك التدين الذي شوّه تصورنا للدين، وأفقدنا الثقة بمظاهره، واتُهمنا بها من غيرنا من الشعوب، وضاعت بنا السُبُل في تمييز الحق من الباطل، وفهم التدين بعكس حقيقته المرادة منه، وصار الحكم في ذلك لمواقف شخصية نابعة عن تصرفات فردية لا تمثل الدين ولا التدين، بل جهل مركب سُلك فأهلك، فعمم الحكم علينا ونحن براء منه. وما أجدرنا بتدين ، يتفق خارجه مع داخلة ، ومظهره مع مخبره، وسلوكه مع طاعته، فلا تكون الأمم الأخرى من غير المسلمين أحق منا بالأمانة ، والصدق ، وتحمل المسؤولية، و الوفاء بالدَيْن، والانضباط في العمل، والسعي في الخير الذي نزعم أننا أهله . ويكفي حين أن نجد سلوكنا متدينا أن نحصل على جزء من الطمأنينة والأمان والسكينة ! . أحمد اللهيب