«السطح» هو الصفيح الأعلى من المجتمع، حاول أن تحدّ النظر إليه، فالمجتمع بآخر المطاف مدجج بالعلامات والرموز، أو حسب بورديو «بالسلطات الرمزية» التي تدلّ على أعمق الأعماق، حينما تتخذ منهجاً راصداً لكل ما يدور من حولك، وأنت في السيارة أو في السوق، أو في ساحة المشي، أو حتى أثناء جلبك كوب القهوة ترصد أشياء كثيرة، تثير القرف أحياناً وتثير الشفقة في أحايين. ترى الشتات بكل وحشيته يطفح على السطح. هل تتحدث عن التهور الخطير الذي يمارس أثناء القيادة؟ أم عن الحُفر المفاجئة وكأنها «كمائن» حرب فيتنام؟ أم عن فوضى الطرق، وفوضى التشجير، وفوضى السفلتة، وفوضى المباني، وفوضى التخطيط الشاملة، حتى أنك تتساءل عن اللجان التي تؤوي كل من هب ودب، هل هذه اللجان تخطط بدقة ضد التخطيط؟ لن تفاجأ أن تجد محلاً لبيع الساندوتشات بجوار ورشة حدادة أو ميكانيكا، أو ترى الازدحام وغياب المرور وكأن المرور في نزهة؟ أو عن التخلف والانحطاط الأخلاقي الذي يمارس ضد العائلات وضد المتسوقين وضد الوافدين؟ من أين تبدأ في وصف السخافات التي تشاهدها. كل تلك المشاهد جاءتني بعد أن أغلقت الصفحة الأخيرة من كتاب عالم المعرفة الشهري، والذي خصص ل(الصناعات الإبداعية) ويدخل في تلك الصناعات (المدن الإبداعية) تضمن بعض المقالات ل(تشارلز لاندري، جوستين أكنور، مايكل بورتر) وهم من الكتاب أصحاب الاختصاص، وقرأت بشغف كيف تُنشأ المدن، وكيف تتم صناعة الثقافة داخلها، وكيف أن مسألة «البركة» والتخطيط الأخرق غير موجود في تلك المدن التي تصنع الإبداع المدني وتؤويه إن المدن الإبداعية تتجه نحو صناعة المدينة، بشكلها وطرقها، ونظافتها ونصاعتها، بعيداً عن التخلف الذي نشاهده في مدننا، حيث الدمامات العشوائية التي تطاردنا بكافة أشكالها. فوضى في الأسعار التي يتحكم بها العمالة وعصابات التجار من دون رقيب، وفوضى في المبيعات والغش، أما عن السوق التجارية فهي في حالة من الفوضى لا أدل على هذا من انتشار محلات (أبو ريالين) التافهة التي تجسد التخلف الاقتصادي والتقهقر في فكر الرقابة التجارية، فهي أخطر من الغزو الفكري الذي مرض الناس به وبالخوف منه، إنها نتاج ثقافة استهلاك أهوج يجب أن يكون للجهات المسؤولة موقفاً حاداً منه بدل الانشغال بقضايا تافهة وبائسة. تفقد الأحياء أشياء كثيرة، وترتيبات دقيقة، ابتداء من وجود الاحتياجات الأمنية الضرورية في كل حي، والاحتياجات الصحية، والهدوء، كما يحتاجون إلى حديقة تكون وسيلة لنشر الخضرة والجمال، تكون الحديقة مليئة بالورود لتهدّئ من الخوف والحقد، أو حس النعرة والغيرة، أو حس القتل. تغيب جماليات كثيرة من أحيائنا ومن مدننا، وتنمو المدن على قانون واحد هو قانون «البركة» وتظل العمائر تنمو في كل اتجاه وتظل العقارات ترتفع أسعارها في صحراء قاحلة مترامية الأطراف. باختصار يغيب الإبداع المدني عن مدننا، حتى أن بعض مدننا لا ينطبق عليها وصف «مدينة» وإنما وصف قرية كبيرة، لأنها مهما كانت مدججة بالأنوار والشوارع تفقد أهم المتطلبات الضرورية للإنسان. يثير اشمئزازك أيضاً هذا السعار في الدعايات للمأكولات، بينما في الدول الأخرى تكثر الدعايات، للجامعات الأهلية، وللمكتبات، وللأمسيات، وللنشاطات الفنية أما نحن فصور الساندوتشات، وأنواع الأجبان والألبان تطاردنا في الشوارع وكأن المجتمع قطيع من الفئران القارضة، لا يوجد أي إعلانات تحاكي الروح أو العقل، كل الإعلانات إعلانات استهلاكية، وهذا يدل ويشرح الهوس الغذائي بدل التنشيط للحس الروحي والذوقي والفني.إنها علامات، وإشارات تدل على قعر عميق، من الخواء، تدل على طبقة سفلية ناقصة نحتاج بعد أن عشنا لسنوات طويلة ننظر إلى نصف الكوب المملوء أن ننظر لسنوات قادمة إلى النصف الفارغ، أن نتخلص من أوهام التفاؤل وطيش التبرير وحماسة المدح والتطبيل. فهد بن سليمان الشقيران. [email protected]