ليل جدةالمدينة المتناهية الدلال لا يعرف هدوءا .. الشغوفين بالسهر لا يملون السفر عبر أشرعة البواخر في بحر (أبحر) على وقع النوارس ومجداف البحّار وأغنيات السهر .. هناك لا ينفك الليل عن وجوه المارة.. يلتصق بالتعابير الشاحبة حينا والمفرحة بعض أحيان فللوجوه حكايات لا تنتهي معها تقرأ ملامحهم حين تكتظ بهم الدروب بين عاشق ومرهف وعازف جيتار .. كل هذا الخليط من الوجوه يعني حياة متجددة لهذه المدينة الرحبة بالقصص التي لا تعرف نهاية ..هنا بدر الشاب الجداوي الذي تخيّر جزءاً من طريق الكورنيش ليقوم بصنع الشاي على الجمر بنفسه ومن ثم بيعه في أكواب بلاستيكية على المتنزهين , يبدأ بدر منذ العصر في تجهيز المستلزمات التي تعينه في صنع الشاي وعلى هذا المنوال منذ سنة , ينتهي من عمله الرسمي كحارس أمن في أحد المراكز التجارية عند الرابعة ليمارس بعدها مهمته في بيع الشاي , يملؤه أمل لا يخبو نحو غدِ أجمل فهو في صراع مع الظروف التي تعترض حياته بشكل مُنهِك لكنه رغم كل التعب لم يتوانى في إتخاذ هذا الجزء الذي يبيع عنده الشاي كواجب يومي كي يعينه على توفير مصروف والده المريض وعلى القيام بواجباته الأسرية أيضا .. صحيح أن مؤهله المتوسط لم يمنحه فرصة أجمل لكنه قرر ألا ينتظر كثيرا ليبادر ويكسر كل الحواجز ويجعل من فكرته البسيطة في بيع الشاي على الجمر مشروعا صغيرا يمنحه مصروفا يعينه على الإيفاء ببعض مصروفات أسرته المكونة من ثلاث أخوات بالإضافة لوالده ووالدته .. بدر جعلني أتأمل هذا الكم من الأفكار التي تتوارى تحت ستار العيب وهذه الفرص التي تتوه منا لمجرد أننا نخجل من الناس والمجتمع ..أعتقد أن لكل منا حلم و الحلم بواقع أجمل لا يمنحنا اياه فانوساً سحريا ..هو من حولنا.. في المحيط الذي يطوقنا.. في الداخل المغمور فينا ..المهم أن نطلق العنان للأفكار التي تسكننا دون أن نركن للأوهام التي تعيق طريقنا نحو الحياة تماما مثلما فعل السويسري (ايسلر) عندما اشترى مقطورة من قطار قديم يعود إلى بداية القرن العشرين , كانت هذه المقطورة خرّبه يعتملها الصدأ ليبدأ فورا بتنظيفها وتحويلها فيما بعد إلى مقصورة فخمة تحتوي غرفة للنوم وزاوية استقبال وقد زودها بجهاز هاتف ثم دهنها من الخارج باللون الوردي حتى باتت في منتهى الأناقة وبدأ بتأجيرها للعرسان الجدد الذين تخيروا مقصورته دونا عن أفخم الفنادق رغبة في أن تكون ليلة زفافهم مختلفة و مميزة وهكذا حتى أصبحت لائحة الإنتظار طويلة بالزبائن بشكل لم يكن يتوقعه أحد ..
أعتقد أن بدر وأيسلر انموذجان للأمل والحلم الذي يبدأ بفكرة ولو بعد حين ! [email protected] أنس الدريني