تلقيت اتصالا من شابة تتكلم العربية بلغة ممتازة وذكرت أنها من تركيا وترغب في الاستفادة من وجودها في مكة بطلب العلم مستمعة في جامعة أم القرى. طلبت مقابلتها وأعطيتها موعدا في المركز بعد المغرب. عند أذان المغرب يرن الهاتف وإذا بأمل تتصل على الموعد، رددت عليها فطلبت مني العنوان فأخبرتها به وقلت لها أنا بانتظارك. وصلت المركز وقت صلاة المغرب وكان عندي اجتماع مع إحدى الموظفات فأخبرت السكرتيرة بأنه ستأتي ضيفة لتستقبلها في مكتبها حتى أنتهي من اجتماعي. بعد انتهاء الاجتماع دخلت على ضيفتي التي كنت أفكر فيها وكلي شوق للقائها فقد انطبع في ذهني منذ تكلمت معها بأنني سأقابل امرأة ذات همة عالية ونفس طموحة ولا بد من مساعدتها وفتح الأبواب لها. دخلت على أمل تلك الشابة البيضاء ذات الحجاب الكامل فسلمت علي بحرارة ثم جلست. تبادلنا الحديث وسألتها أسئلة كثيرة عن حياتها ودراستها، فعجبت وتأثرت وحمدت الله أن نماذج الرحلة في طلب العلم لا زالت حية وأن الله يحفظ دينه وستبقى ثلة تحمل هذا العلم وتبلغه مهما شكك المشككون وسخر المستهزؤون وطعن المنافقون. أمل ذات الجنسية الفرنسية من الأصول التركية ولدت في فرنسا ونشأت ودرست فيها وحوربت على حجابها وفي امتحان الثانوية العامة حاولوا منعها من دخول الاختبار فأصرت وقالت هذا من حقي فاختبرت وحصلت على درجة الامتياز ولكنها حرمت من الحصول على الشهادة، ورغم مرور عشر سنوات على هذا الأمر إلا أنها تحاول استخراج شهادتها لتفتح لها أبواب الدراسة النظامية في الجامعات الإسلامية. سافرت أمل إلى مصر لدراسة اللغة العربية فدرست وأتقنت وتقدمت. ثم سألت أين أطلب العلم؟ فقالوا لها في اليمن فسافرت مع زوجها ودرست في جامعة الإيمان لمدة سنة ثم حصلت الحرب فخرجت من اليمن إلى السعودية. ثم سألت أين أجد العلم؟ فقالوا لها في القصيم، فسافرت القصيم وجلست شهرين ثم ما وجدت بغيتها لأن الدروس في المساجد متباعدة وأسبوعية وهي ترغب في الدراسة المستمرة لتحصل أعلى الفوائد العلمية. ثم سألوا أين نطلب العلم؟ فأشاروا إلى زوجها بالدراسة في دار الحديث وهي في أم القرى. سبحان الله هي تتكلم وأنا أتذكر رحلة العلماء في طلب العلم وتذكرت سابينا الأرجنتينية التي كانت تسافر في الصيف إلى دروس الشيخ ابن عثيمين بدلا من زيارة بلدها. كانت تتكلم وهي سعيدة جدا بأنها في مكة، ثم قالت: يا أهل مكة كنت أقرأ عنكم في الكتب ثم رأيتكم! تمنيت وقتها أن أغطي وجهي خجلا مما سمعت، الله أكبر هذا شعورها فكيف لو رأت…. الله أكبر تذكرت قول الشاعر: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. ثم قالت: عندما أجلس أمام الكعبة أحس كأنني في خيال فلا تصدق عينيها أنها في مكة، وأهل مكة لا يستشعرون أنهم في نعمة يغبطون عليها – إلا من رحم -. كانت حريصة خلال المقابلة أن تحصل مني على وعد بمساعدتها في الدراسة. ذكرت لها المعاهد الشرعية فقالت أرغب في أكثر من ذلك، ثم وعدتها أن أساعدها في الفصل الثاني إذا يسر الله. فسألتني: متى يبدأ الفصل الثاني؟ قلت لها بعد شهرين تقريبا. قالت: وماذا أفعل في هذه الفترة أريد شغل وقتي بطلب العلم؟ قلت لها: راجعي حفظك وسجلي في مركز الشيماء. ناسبها هذا الاقتراح وقالت بشرط تساعديني على الجامعة. ثم رشحتها لحضور برنامج سفيرة في المركز وهو خاص بطالبات المنح فوافقت وفرحت به. خرجت أمل من عندي وقد أعطتني أملا وهمة. خرجت أمل وأعادت إلى ذاكرتي سير العالمات المحدثات والفقيهات. خرجت أمل وقد ضربت لي مثلا للنفوس العالية والهمم السامقة والنموذج الباقي من سلف الأمة الصالح. كانت تقول: لا بد لي من التزود بالعلم لأعود إلى بلدي داعية ولأن الأمة تحتاجنا. كم من نفس باذلة تفكر بمنطقها وتضحي بشبابها لتنفع غيرها. أمثال أمل في عمرها (27) يمضون عمرهم في الأسفار والأسواق والسنابات والمطاعم والملاهي، لا يحملون هم نفع أنفسهم فضلا عن غيرهم، ولا يعرفون هدف حياتهم ولا غاية خلقهم – إلا من رحم الله -. أمل الشابة الجميلة الفرنسية التركية لم تشغلها ماركات الماكياج وساعات الرولكس وحقائب وأحذية الشركات العالمية . الفرق واضح بين النموذجين.. أمل أدركت رؤيتها ورسالتها وأهدافها الحقيقية وسعت في تحقيقها وبلوغها. وغيرها يسير بغير هدى ولا صراط مبين. أسأل الله العلي العظيم أن يبلغها ما تتمنى ويعلمها ما ينفعها ويفتح لها أبواب خير وصدق. أمثال هذه النماذج تُشعرنا بقيمة ما نتعلم، وأهمية ما عندنا من كنوز علمية متاحة للجميع، وجبال من النعم التي نرفل فيها ولم نؤد شكرها . أمثال هذه القصص تكشف لنا حقيقة الحرية التي نعيشها حين نتعلم ما نريد وكما نريد وبدون مساءلة أو ملاحقة قانونية أو نظامية . أمثال هذه الوقفات تظهر لنا النماذج المشرقة من صفحات علمائنا، وجمال العقيدة الصافية التي نهلنا منها منذ نعومة أظفارنا في هذه البلاد المباركة . ️ همسة محبة لمن وجد في نفسه حرجا أو ضيقا من مناهج علماء العقيدة الصافية ولم يرق لهم بعض ما يعتقدونه من مسائل عقدية وما يرجحونه من مذهب أهل السنة والجماعة في الأمور الغيبية الإيمانية أقول لهم: عقيدتنا نور يشرق على القلوب فيضيئها وعلى النفوس فيشرح صدرها فمن لم يصل هذا النور قلبه فلا يلومن إلا نفسه وليتهم قلبه ويسأل الله أن يكشف عنه الغشاوة ويزيل عنه ران قلبه . د. أميرة بنت علي الصاعدي المشرفة العامة على مركز إسعاد