لا شك أن بوابة التعليم هي المدخل لغرس القيم والعادات والتقاليد في نفوس الناشئة، وأن مصاب الأمم ونكبتها، كما أن تقدمها وازدهارها، ذو ارتباط وثيق بالعملية التعليمية، ولا يمكن بحال الفصل بينها أو ادعاء أنهما يسيران في مسارين منفصلين. فالتعليم، من ناحية مسؤول عن غرس قيم المواطنة والانتماء إلى الوطن، والحفاظ على الهوية، وترسيخ المفاهيم والقيم التي توافق عليها المجتمع، ومن ثم فإن لًحمة التعليم وسداه لابد وأن تكون من منابع وطنية خالصة، لا سيما ما يتعلق بالمناهج والمقررات المدرسية. والتعليم مسؤول من ناحية أخرى عن نوعية المخرجات التي يتلقاها المجتمع كل عام، من شتى الجامعات والمعاهد، أي أنه البوابة التي يعرج منها الفرد للوصول إلى موقع المسؤولية في بلده، وهذا مكمن الخطورة، في هذه العملية، أنها تصيغ لنا قادة المستقبل لهذا البلد الأمين. والمشكلة الشائكة والدقيقة، التي طالما اختلف فيها الباحثون والكتاب المعنيين بهذا الأمر، تقع حول سبل التوفيق بين الحفاظ على الهوية الوطنية في مراحل التعليم المختلفة، من ناحية، وبين اكتساب الخبرات والمهارات العلمية الحديثة، التي وصل إليها الغرب وفاقنا فيها تقدماً، من ناحية أخرى. والذي نراه في هذا الصدد هو ضرورة وضع سياج فاصل بين المناهج والمقررات المدرسية من ناحية، وسبل ووسائل وآليات العملية التعليمية وما يحتف بها من ممارسات علمية، من ناحية أخرى، إذ تقع الأولى في دائرة المحظورات، بينما تقع الثانية في دائرة الإباحة، وقد تصل إلى حد الواجب، بالمصطلح الفقهي. ونقصد بدائرة المحظورات هنا، أنه لا يمكن اقتباسها، ولا حتى في أجزاء منها من خارج الهوية الوطنية الجامعة لهذا المجتمع، فلابد وأن تكون كافة المقررات التعليمية نابعة تماماً، وعاكسة بصورة جلية لمفاهيم وقيم ومعتقدات وأخلاق المجتمع السعودي التي هي انعكاس لقيم الشريعة. ووضعنا دائرة الحظر هنا على الاقتباس الخارجي لمبررات شتى، وأسباب متعددة، في مقدمتها أن أية أمة تحرف مناهجها، وترقع مقرراتها الدراسية، أمة تسقط حضاريا أمام من اقتبست مادتها التعليمية منه، وينهزم أبناؤها نفسياً أمام هذا الغزو التعليمي. كما أن ذلك الاقتباس، من شأنه أن يضعنا أمام جيل مشوه في قيمة ومفاهيمه، إذ التعليم عبارة عن نسيج متكامل، لا يصلح له الاقتباس من خارج أرضه ووطنه، وإلا نشأت ظاهرة الصراع الجيلي، بما تحمله من جينات مدمرة لوحدة المجتمع وتماسكه. ودائرة الإباحة نقصد بها دائرة الاقتباس في الوسائل والأدوات وما يحتف بالعملية التعليمية من ممارسات فنية، إذ إن هذه كلها مجهودات علمية بشرية، لن يضيرنا شيء أن أخذنا بها، بل نرى أنه من الواجب والمحتم معرفتها وتخير المناسب منها لتجويد وتحسين مستوى العملية التعليمية في بلادنا. وعلى ضوء هذه الدوائر المختلفة، يمكن أن نفهم لماذا كان اعتراض النبي على قراءة كتب أهل الكتاب، فقد أتى عمر بن الخطاب، النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني". فالمنع هنا من باب الحرص على وحدة التلقي، وهوية الأمة من أن يدخل فيها ما ليس منها، ولعل القرون التالية التي خالط فيها المسلمون الفلاسفة وأخذوا منهم كانت سبباً رئيساً في تشتت شمل الأمة وافتراقها، إذ ذابت الهوية المميزة للأمة وسط جهالات وخرافات الفلاسفة وغيرهم. وعلى ضوء هذا يمكن أن نفهم لماذا أمَر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليَهود! قال زيد بن ثابت: أمَرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتَعَلَّمْتُ له كتاب يهود، وقال: إني والله ما آمن يهود على كتابي. فتعلمته، فلم يَمُرّ بِي إلاَّ نصف شهر حتى حذقته، فكنت… أكتب له إذا كَتب، وأقرأ له… إذا كُتب إليه. فهذا التعلم من باب الأخذ بالأساليب الحديثة، ومسايرة الواقع، وليس فيه ما يمس هوية الأمة. إننا فقط نحذر من تداخل تلك الدوائر، والخلط بينها، ففي ذلك عدوانٌ آثم على هوية المجتمع.