في مطلع عام 2005 كتبت سامانثا شابيرو تقريراً في صحيفة النيويورك تايمز عن قناة العربية، نقلت فيه عن مالك القناة، وليد الإبراهيم، قوله إنه يهدف من وراء إطلاقها إلى تقديم «بديل معتدل» لقناة الجزيرة، أو تقديم سي إن إن عربية «هادئة ومحترفة» في مواجهة فكس نيوز (الجزيرة). تقول شابيرو إن العربية منذ بدايتها اتخذت أسلوباً مختلفاً عن الجزيرة، إذ لا يوجد في برامجها شيء يشابه برنامج «الشريعة والحياة» الذي يقدم النصائح للمشاهدين حول تطبيق الشريعة في حياتهم. وربما كان سبب غياب مثل هذا البرنامج على شاشة العربية، موقف مديرها، عبد الرحمن الراشد، الذي عُرف ب «مقالاته الغاضبة والصريحة في نقد الأصولية الإسلامية»، لاسيما هجومه الحاد على المقاتلين الشيشان بعد احتلالهم مدرسة بيسلان في جمهورية أوسيتيا بشمال القوقاز. وتضيف شابيرو أن الراشد عزل فور توليه إدارة القناة مدير قسم الأخبار فيها وعيّن شخصاً آخر، كما عيّن محرراً تنفيذياً، ووجه تعليمات إلى المذيعين والمراسلين تتضمن تعديلاً على مصطلحات التناول الإخباري، لتصبح القوات الأميركية في العراق مثلاً «قوات متعددة الجنسية» لا «قوات احتلال». كما أبلغ مذيعة برنامج «السلطة الرابعة» (الذي يتناول آراء الصحف الغربية بسرعة أقرب إلى السلق) أن تتوقف عن الاقتباس من صحيفتي الغارديان والإندبندنت البريطانيتين اللتين تنزعان نحو اليسار. وتضيف مراسلة التايمز: «أبلغتني إحدى مذيعات القناة أنها تلقت تعليمات بقطع حديث الضيوف الذين يختلفون بغضب مع أميركا، بينما قال لي مذيعون آخرون إنهم تلقوا تشجيعاً على طرح أسئلة أكثر قسوة في مقابلاتهم» (2 كانون الثاني/يناير 2005). في مطلع عام 2008 أجرى روبرت وورث مراسل النيويورك تايمز مقابلة مع عبد الرحمن الراشد، نقل عنه فيها قوله إن: «التلفزيون هو من جعل ابن لادن شخصية مشهورة، الأمر الذي أدى إلى…نشر العنف في كل أرجاء المنطقة». ويعلق وورث بالقول إن الراشد كان يرمي إلى الجزيرة، التي كانت السبب في وجوده على هرم هذه القناة في دبي. «لقد تم استئجاره ليتغلب على الجزيرة، ويأخذ صحافة المنطقة إلى اتجاه جديد»، بحسب تعبير وورث الذي أضاف أن الراشد اكتسب سمعته من النقد اللاذع للجهاديين، وبعد توليه إدارة العربية أثار الغضب في العالم الإسلامي بقوله: «ليس كل المسلمين إرهابيين..ولكن معظم الإرهابيين مسلمون». والحقيقة أن مراسل التايمز لم ينقل عنوان عمود الراشد في صحيفة (الشرق الأوسط) الذي كان أكثر تطرفاً: «الحقيقة المؤلمة أن كل الإرهابيين مسلمون» (4 أيلول/سبتمبر 2004). افتخر الراشد بالتغييرات التي «جيء» به لتنفيذها. قال مثلاً إن «المتمردين في العراق لم يعودوا يوصفون بالمقاومة (نشرت النيويورك تايمز كلمة «المقاومة» بتهجئتها العربية وترجمتها الإنكليزية)، بل أصبحوا يسمّون مسلحين (نشرتها الصحيفة أيضاً باللغتين). العراقيون الذين يقتلهم الأميركيون ليسوا شهداء بالضرورة، إنهم الآن مدنيون فقط تعرضوا للقتل». ويزعم الراشد، كعادته دائماً، أنه غيّر أسلوب الجزيرة التحريري، وحوّلها من قناة ثورية إلى هادئة رقيقة اللفظ و «متوازنة». يشير وورث إلى أن الراشد أخبره «وفي عينيه نظرة ساخرة أن الجزيرة (بفضله) أصبحت ناعمة ومنطقية جداً فيما يتعلق بالعراقيين». وفي سياق سرده للمقابلة أثنى مراسل التايمز على موقف قناة العربية «الإنساني» من ظاهرة «الإرهاب»، إذ «بذلت جهداً واعياً لإلقاء الضوء على التكلفة الإنسانية للإرهاب والعنف السياسي» من خلال برنامجها «صناعة الموت». ويعترف الراشد، بحسب المراسل، أنه لاقى مقاومة لطريقته في إدارة القناة، التي عّدها بعض الصحافيين خذلاناً للقضايا العربية، حوّلت القناة إلى «مركوب» أميركي، لكن العاملين فيها ظلوا على ولائهم لها، ولم يستقل منهم إلا قليل. ويطمئن الراشد وورث بقوله إن قناته «ستستمر في نهجها الحالي، وإن حملته لحقن الخطاب السياسي العربي بالاعتدال لم تذهب سدى» (5 كانون الثاني/يناير 2008). في عام 2009 وصفت مجلة تايم الراشد بأنه «معادٍ لقناة الجزيرة، ومناضل ضد الإسلام المتشدد، وهو من الأسباب التي دعت أوباما إلى اختيار العربية لإجراء أول مقابلة رئاسية رسمية معه». في آذار (مارس) 2007 أبلغ الراشد مجلة فرونت لاين الأميركية أن قناة العربية تحقق نجاحات «من دون أشرطة ابن لادن، من دون مساعدة ابن لادن، وهذا في رأيي ظاهرة..أنموذج.. لو حدث وعرضنا أحد أشرطة القاعدة، ونادراً ما نفعل، فإننا نعرض الجزء الإخباري منها فقط…نحن بحاجة إلى أن نُريَ الناس أن بوسعنا أن نصنع قناة إخبارية من غير ميديا سيئة (قائمة على) الخطابة والديماغوجية في الشارع…نحن لا ننحاز إلى جانب دون آخر..الأخبار يجب أن تكون محايدة. هذا ما تعلمناه في المدرسة..دعنا نقل: خمسة فلسطينيين قُتلوا…بعض المحطات سوف تسميهم «شهداء» انطلاقاً من رؤيتها السياسية. أما نحن، فلا؛ نعامل (الناس) سواسية. إذا قُتل خمسة (في فلسطين)، قلنا: قُتل خمسة أشخاص في فلسطين». كان لا بد من هذه المقدمة التي استعرضت فيها بعض آراء مدير قناة العربية، ويحتاج الرد على ما فيها من كذب متوحش ونفاق صادم إلى مجلدات. ولكني أتوقف عند مشهد حديث يكاد يأتي على معظم مزاعم هذا الرجل من القواعد. في 28 آذار (مارس) الجاري التقى مذيع العربية محمود الورواري برجل مصري اسمه سيد إمام الشريف، عرّفه للمشاهدين باسم الدكتور فضل. كان اختيار الرجل مناسباً، ليقضي حاجة القناة، أو حاجة مديرها «المحايد» «المهني» ذي المقاربة الهادئة وغير الديماغوجية، الذي قضى حياته مناضلاً ضد التكفير والإرهاب، ويصر في كل مناسبة، على رفض استضافة التكفيريين والإرهابيين، إلا في أضيق نطاق، مظهراً فقط «الجزء الإخباري» فيما يزعم. في بداية اللقاء (وهو حلقة من برنامج «الحدث المصري» المخصص للنيل من القيادة المصرية والتحريض على العنف والحرب الأهلية في مصر) قدم الورواري شيخه «الشريف» بالقول إنه «ابن بني سويف النابغة»، «مفتي الجهاديين في العالم..المؤسس الأول لتنظيم الجهاد الإسلامي..الذي يرى أن «الإخوان وأدعياء السلفية الجهادية أجهضوا الثورة وقبضوا الثمن»..ومؤلف كتاب «العمدة في إعداد العدة» الذي «أصبح مرجعاً لتنظيم القاعدة»، ومن خلال اللقاء معه «نتعرف على رؤيته من واقع خبرته الكبيرة»! أتت العربية بالرجل ليبق البحصة التي تشتهيها: تكفير الرئيس المصري، فأعطاها فوق ما تشتهي. لما تأخر في «المهمة» المقدسة التي أنيطت به، لم يجد ورواري العربية بداً من مبادرته وتذكيره، فسأله، وما المسؤول بأعلم من السائل: «دكتور محمد مرسي، رئيس الجمهورية، لك قول فيه: مؤمن، كافر، مسلم؟». رد «الشيخ» فوراً، وكأنما أعطي حقنة منشطة: كافر! فاستدرجه المذيع إلى ما يريد، وكأنما ظفر بصيد: «بس دا إسلامي، جاي من الإخوان المسلمين وحركة إسلامية، وحافظ القرآن». وهنا رد «الشيخ» بمسائل فلسفية لم تشف غليل المذيع الذي كان يبحث عن «الزبدة»؛ عن لغة التكفير والتخوين وإهدار الدم وإشاعة الفوضى والعنف، كما هي التعليمات التي تصل إليه من إدارة القناة. ولما أطال في التنظير سأله الورواري: «أنا عايز الحاكم..الحاكم بأه..أنا عاوزك تتكلم عن الحاكم». وهنا فجّر الشيخ قنبلته الثانية: «كل من انتخب مرسي كافر»! سأله المذيع بهدوء وعيناه تشعان بفرحة الانتصار: «دكتور..هل من السهولة أن تكفر كل من انتخب مرسي..من المفكرين الكبار ذوي الخلفية الكبيرة؟»، فيجيب «الدكتور»، مفتي العربية، والذي بدا فارغاً كالطبل: «مصر تحكمها طائفة مرتدة، جابت حاكم كافر إلى مصر بعد 80 سنة من الحديث عن الإسلام، والطائفة التي تأتي بحاكم كافر أرادت دوام الكفر، وكل من أراد دوام الكفر فد كفر، لأنه شرح بالكفر صدراً». هنا تنفس آية الله الورواري الصعداء، وانشرح صدر حجة البنتاغون عبد الرحمن الراشد من وراء ستار! إنها قناة العربية التي يباهى مديرها أمام الصحف الأميركية بتمثيله صوت العقل، وترسيخه تقاليد الصحافة في منطقة مهووسة بالعنف والجهل وفقدان المنطق. ليس بعد التكفير ذنب؛ التكفير الذي أصبح في هذه اللحظة مطلوباً وإيجابياً، ولا غنى للتناول الإخباري عنه، بعكس أشرطة ابن لادن أو القاعدة، أو حتى الذين يقاتلون الأميركيين في العراق وأفغانستان. ببساطة، تستضيف العربية تافهاً على شاشتها ليكفّر رئيس مصر والملايين من شعبه الذين انتخبوه، ولا بأس أن يخرج علينا مديرها متشدقاً بالمهنية واللغة الناعمة، ونائياً بنفسه عن التكفير والتفجير. هل ستمر هذه السياسة العدائية المنظمة ضد مصر وشعبها من غير حساب؟ إنها لحظة الحقيقة التي يجب أن يتوقف عندها الجميع. التكفير أقسى من البلطجة؛ إنه انتهاك لحق الإنسان في الحياة، واغتيال معنوي لإيمانه وإنسانيته وكرامته. ترويج الخطاب التكفيري أقصر طريق لإثارة الانقسامات والحروب. للمصريين ثأر عند قناة العربية لا يقل عن ثأر السعوديين. لكن يجب ألا يتأخر الحساب.