الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد: فقد سبق الحديث عن البشارة الأولى: "وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة"، "وعلى الأرض إسلام, وللناس أحمد" وفي هذا المقام سنتحدث عن: البشارة الثانية: "البشارة بإيليا" وقد سبقت الإشارة في سفر ملاخي (3: 1، 2) وهو يتحدث عن اثنين أحدهما الذي يهيئ الطريق أمام القادم من عند الرب، والثاني الذي يأتي بغتة إلى الهيكل ويسميه: السيد، وملاك العهد، وهو الذي يطلبه بنو إسرائيل وينتظرونه. وبعدها يذكّرهم النبي ملاخي عليه السلام بوصية موسى عليه السلام على جبل حوريب (الطور) والتي فيها بشرهم موسى بالنبي القادم مثله من إخوتهم وأوصاهم بحفظ وصيته ونصره. هذا ويرى النصارى أن النبي الذي يمهد الطريق هو يوحنا المعمدان، أما المُمَهَدُ له فهو المسيح عليهما السلام، ولكن هل هذا حق؟ تحتج الكنيسة على قولها بما تنسبه عن المسيح عليه السلام: "ماذا خرجتم لتنظروا، أنبيًا، نعم أقول لكم وأفضل نبي، فإن هذا هو الذي كتب عنه هاأنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ الطريق قدامك. الحق أقول لكم. لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان ولكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه؛ لأن جميع الأنبياء والناموس تنبؤا. وإن أردتم أن تتقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي. من له أذنان فليسمع" (متى 11: 9 15)، "إن إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء.. ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه. حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان" (متى 17: 10 13). وهكذا ترى الكنيسة أن المبشر الممهد هو يوحنا المعمدان يحيى عليه السلام وأن المبشر به هو المسيح عليه السلام، ولكن الصحيح هو أن إيليا رمز للنبي القادم، وليس للنبي الممهد طريقه([1]). وقبل الولوج لفهم حقيقة هذه النبوءة نذكر بعض التنبيهات حول التحريف اللفظي والمعنوي الذي طال هذا النص المقدس الفريد. ففي ملاخي (ملاك العهد) وفي الترجمات القديمة (رسول الختان) ثم في الترجمات القديمة: (أرسل رسولي) وفي الحديثة (أرسل ملاكي)، وفي طبعات أخر (السيد) و(الولي) و(إيليا) وفي النسخة التي كانت بين يدي ابن القيم (إيل)([2]). كما أن في نصوص الأناجيل تحريف للاقتباس من سفر ملاخي الذي استعمل ضمير المتكلم "فيهيئ الطريق أمامي" فيصيره الناسخ إلى "يهيئ الطريق قدامك". ولم يسلم كلام المسيح ولا يحيى بن زكريا عليهم السلام من التحريف؛ فقد زعم كُتّاب الأناجيل أن المسيح قد اعتبر المعمدان يحيى هو الممهد لدعوته، وأنه قد سماه إيليا المنتظر كما مر . ومن التحريف قولهم: إن المعمدان قد أخبر أن القوي الذي بشر بقدومه بعده هو المسيح "هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم، هذا هو الذي قلت عنه: يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي" (يوحنا 1: 26 40). ودعوانا بوقوع التحريف ليس ردها إلى عدم توافق النصوص مع المسألة التي نحن بصدد إثباتها بل رده إلى أن يوحنا المعمدان نفسه قد أنكر أن يكون هو النبي إيليا الممهد بين يدي السيد القادم، فقد قال لرسل اليهود من الكهنة واللاويين "ليسألوه من أنت. فاعترف ولم ينكر. وأقر إني لست أنا المسيح. فسألوه إذا ماذا. إيليا أنت. فقال لست أنا. النبي أنت، فأجاب لا" (يوحنا 1: 19 21) فهذا نص واضح لا يقبل التمحُّل والتأويل. ويلزم من قول المعمدان تكذيب المسيح فيما نُسب إليه من أن إيليا قد جاء، أو يكون المعمدان كاذبًا حين أنكر أنه إيليا، والمجزوم المقطوع به أن الأنبياء لا تكذب فأخص صفاتهم الصدق، فلم يبق إلا الاحتمال الثالث وهو أن التلاميذ كالعادة لم يفهموا كلام المسيح وأوامره ونبوءاته على افتراض صحة ما نسب إليهم إذن فقد أساء التلاميذ الفهم ومعهم متى حين قال: "حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان" (متى 17: 13)، لقد ظنوا أنهم فهموا بينما في الحقيقة أنهم لم يفهموا مراده لأنه كان يعني نفسه، فالمسيح عليه السلام يخبرهم بأنه هو النبي الممهد للنبي القادم إيليا، ومن له أذنان فليسمع. وبهذا تكون نبوءة ملاخي قبل التحريف "ها أنذا أرسل رسولي فيهيئ الطريق لمن أمامه، ويأتي بغتة إلى بيت الله السيد الذي تطلبونه ورسول الختان الذي تسرون به هو ذا يأتي" (ملاخي 3: 1، 2). وقد كان ملك الروم هرقل حزّاءً أي ينظر في النجوم وكانت عنده نبوءات وبشارات الكتاب المقدس، وقد دعا خاصته في يوم من الأيام وقال لهم: "نجم ملك الختان قد ظهر…" في قصة طويلة مشهورة ([3]). ثم إن صفات إيليا لا تنطبق على المعمدان، لأنه يأتي بعد المسيح "المزمع أن يأتي" والمسيح والمعمدان متعاصران! كذلك فعندما يأتي إيليا فإنه "يرد كل شيء" و"يرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على الآباء" ومثل هذا لم ينقل عن المعمدان الذي عاش في الصحراء، وطعامه الجراد والعسل، ولباسه وبر الإبل، وغاية ما صنعه تعميد من جاء تائبًا. (متى 3: 1 5)([4]). وكيف يكون المعمدان ممهدًا للمسيح وهو قبل مقتله حسب الأناجيل لا يعرف حقيقة المسيح، ويرسل تلاميذه ليسألوا المسيح: "أنت هو الآتي أم ننتظر غيرك" (متى 11: 3) فكيف يقال بأنه قد أرسل بين يديه وهو لم يعرف حقيقته؟! ثم ماذا صنع يحيى بمهمته المدعاة للمسيح عليهما السلام؟! فلم يرد عنه سوى البشارة بالملكوت كما بشر به المسيح من بعده (متى 3: 1) وهذا ما يؤكد أن الاثنين دعوتهما واحدة وهي البشارة بنبي الملكوت محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال متى عن المسيح عليه السلام: "من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" (متى 4: 17، 23). كذلك تلاميذه (متى 10: 7)، كما فعله يوحنا المعمدان "جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية قائلاً توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" (متى 3: 1، 2) نعم قد اقترب فستمئة عام قصيرة للغاية بحساب الأمم، وهو ما تحقق بعد ستة قرون، فقد قرع الخافقين أعظم ناموس كوني، وأكمل هداية للبشرية ببعثة سيد ولد آدم بشيرًا ونذيرًا بكلام الله العزيز. وكما قلنا في عدم تحقق صفات إيليا في يوحنا المعمدان فهي كذلك غير متحققة في المسيح عليه السلام. قال المعمدان: "أنا أعمدكم بماء التوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني. الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار. الذي رفشه في يده. وسينقي بيدره. ويجمع قمحه إلى المخزن. وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ" (متى 3: 11، 12) فالقادم المبشر به سيعمد بالروح القدس والنار، أما المسيح فلم يعمّد أحدًا طول حياته "مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه" (يوحنا 4: 2) أما الآتي فيعمد بالروح القدس والنار أي يملك سلطان الدين (الروح القدس والوحي) وسلطان الدنيا (النار وجهاد من خالفه) فطهّر كثيرًا من بقاع الأرض من رجس الوثنية بالوحي والسيف، فأين معمودية المسيح عليه السلام من هذا؟! كما قد وصف المعمدان النبي القادم بأنه "أقوى مني" وليس في حياة المسيح عليه السلام بحسب الأسفار ما يميزه من حيث القوة عن المعمدان، فكلاهما لم يبعث بشرع جديد، ولم يملك على قومه، بل تزعم الأسفار أنه قد صلب! إذن فتلك القوة معلوم صاحبها الذي قلقل الدنيا وسحق إيوان كسرى وثلّ عرش قيصر _أي بدعوته وشريعته_ وحاز قصور اليمن، بعد أن طهر أطهر البقاع وأقدس الأماكن مكةالمكرمة البلد الحرام من رجس الأوثان وحمأة الجاهلية. ثم أين تحقيق بشارة المعمدان "رفشه في يده. وسينقي بيدره. ويجمع قمحه إلى المخزن. أما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ" وهذا كناية عن سلطان إيليا المنتظر (رسول الختان) الذي ينقي بيدره، وهو الأصل الذي أنزله الله تعالى على أنبيائه ورسله مما علق به التبديل والتحريف، وجمع حكمها وصفّاها في محكم كتابه العزيز (القرآن الكريم) ويحرق التبن (الدخيل الزائف المحرف) بنار لا تطفأ وهي نار الوحي والسيف. ولا يمنع أن يكون هذا البيدر إشارة إلى جزيرة العرب التي أمر رسول الختان الخاتم عليه الصلاة والسلام أن يخرج اليهود والنصارى منها بعد أن طهرها من عبدة الأوثان ومنع أن يجتمع مع الإسلام فيها دين بقوله: "لا يترك في جزيرة العرب دينان" رواه أحمد (6/ 275) وقوله: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" متفق عليه. أي لا يقيموا فيها إقامة دائمة مستمرة، وقد كان ذلك بحمد الله تعالى إلى هذا اليوم كما قد أخبر أن الحجاز مأرز الإيمان "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" رواه البخاري. وهو النبي الخاتم الذي "يأتي بغتة" كما جاء محمد صلى الله عليه وسلم إلى بيت ربه تعالى في ليلة واحدة لما أسري به إلى المسجد الأقصى "هيكله" فجمع الله له الرسل والأنبياء فصلّى بهم قبل عروجه إلى السماء([5])، بينما المسيح ويوحنا المعمدان لم يأتيا للمسجد "الهيكل" بغتة، بل قد عاشا في ربوعه وأكنافه. وثمة بشارة في جوف ذلك النص الذي يبين أيدينا وهي وصف إيليا بالأصغر في ملكوت الله "ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه. لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبؤا. وإن أردتم أن تقبلوا هذا فهو إيليا المزمع أن يأتي. من له أذنان فليسمع" (متى 11: 11 15) فالأصغر في الملكوت هو إيليا المزمع أن يأتي، الذي تنبأ به وبشر بقدومه الأنبياء، نبيًا تلو نبي، حتى كان آخرهم المعمدان والمسيح عليهما السلام، وهو الأصغر بالنسبة إلى تأخر ميلاده عن جميع الأنبياء عليهم السلام، وبهذا تأخرت بعثته ورسالته لحكم كثيرة ومع هذا التأخر الزماني فقد فاق كل من سبقه من الرسل بكماله في ذاته وفي رسالته وشريعته ورضا الله تعالى بدينه خاتمًا إلى قيام الساعة. ولا يمكن لنصراني أن يقول: إن المسيح عليه السلام هو آخر الرسل والأنبياء لأن النصارى يؤمنون برسالة تلاميذه وإيحاء الروح القدس إليهم وامتلائهم به حين يكرزون، بل وبمن بعدهم كبولس "الرسول!" ثم كيف يدّعون كمال رسالة المسيح عليه السلام وهم يروون عن التلاميذ أنهم عدلوها ونسخوا بعضها في مجمع أورشليم الأول بزعم التيسير على المدعوين، فأبطلوا الختان، وأحلوا بعض محرمات التوراة؟! ….للحديث صلة ([1]) هل بشر الكتاب المقدس بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ ص115 122، الفاروق بين المخلوق والخالق، عبد الرحمن البغدادي، ص654، الاختيار، ديدات، ص26 123، وقد أطال الشيخ ديدات رحمه الله النفس في هذه النبوءة وكذلك نبوءة (المُعزّي). ([2]) هداية الحيارى، ابن القيم، ص196. ([3]) (البخاري الحديث السابع) وانظر كذلك جوابه لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام. مسند أحمد (21/ 198 200) مع الفتح الرباني، البداية والنهاية، ابن كثير (5/ 16). ([4]) في مصنف عبد الرزاق (20709): أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يبلغهن ويعلمهن بني إسرائيل، ويعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكأنه أبطأ فقيل لعيسى: مر يحيى أن يأمر بهذه الكلمات وإلا فأمر بهن أنت، فقال عيسى ليحيى ذلك. فقال يحيى: لا تفعل فإني أخاف إن أمرت بهن أن أعذب أو يخسف الله بي الأرض، قال: فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس، ثم جلسوا على شرفة، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعلمكموهن وآمركم أن تعملوا بهن. ثم قال: أولاهن ألا تشركوا بالله شيئًا، فإن مثل من يشرك بالله…" فذكر الخمس مع أمثلة عليها وهي النهي عن الشرك، والأمر بالصلاة، والصدقة والصيام وذكر الله، قال يحيى بن أبي كثير: فأخبرني الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وأنا آمركم بخمس بالسمع، والطاعة، والجماعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله…". وقد مدح الله يحيى عليه السلام: "يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً . وحناناً من لدنا وزكاة وكان تقياً . وبرّاً بوالديه ولم يكن جباراً عصيّاً . وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً" [مريم: 12 15]، وروي أن سبب قتله أنه نها بعض ملوك زمانه عن نكاح من لا تحل له ثم إن ذلك الملك تزوجها، فأوغرت صدره واحتالت حتى جعلته يأمر بقتله فقتله عليه الصلاة والسلام. ([5]) جمع الحافظ ابن كثير رحمه الله أطراف أحاديث الإسراء والمعراج في مقدمة سورة الإسراء من تفسيره.