كتب الله الفناء على جميع الخلائق، فسنته في ذلك ماضية، ومشيئته نافذة، وحكمته بالغة، له الملك كله وإليه يرجع الأمر كله، وفي التنزيل العزيز: «إنك ميت وإنهم ميتون»، وقال عز شأنه: «كل نفس ذائقة الموت». يقول الحافظ ابن كثير – رحمه الله: وفي هذه الآية تعزية جميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت. والقرآن الكريم سمى الموت مصيبة فقال جل وعلا: «فأصابتكم مصيبة الموت»، وحين تقع هذه المصيبة يكون لها شدتها ومصابها على من حول المتوفى من أهله ومعارفه ومحبيه بخاصة وعموم الناس بعامه. يقول أيوب السختياني، رحمه الله: إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي، أخرج ذلك الإمام اللالكائي، وأخرج أيضا عن حماد بن زيد يرحمه الله تعالى أنه قال: «كان أيوب يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث فيرى ذلك فيه». فإذا كان هذا هو الشعور عند موت الفتى والرجل المغمور وغير ذي المكانة العلمية والصلاح، فكيف يكون الحال عند موت أحد العلماء والفضلاء وأصحاب الصلاح والأخيار؟! إن موت العالم، يقض المضاجع، ويهيل المدامع، فحياة العالم غنيمة، وموته مصيبة. ومن علامات الخير في المجتمع والناس أن تعرف للعالم منزلته، وتحفظ له مقامه، يظهر ذلك ويؤكده ما يظهر على الناس من تأثر وفجيعة عند حدوث العارض أو المرض، فكيف إذا كان المصاب بالوفاة وحلول الأجل؟! وقد ظهر هذا الشعور وتجلى حين فقدت الأمة العالم المسند الفقيه الإمام معالي الشيخ محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز السبيل، رحمه الله وغفر له، الذي أم الناس في بيت الله ما يقرب من 45 عاما، وعضو هيئة كبار العلماء، وعضو المجمع الفقهي الإسلامي ورئيس الحرمين الشريفين. فقد عرف الشيخ – رحمه الله – عالما راسخا في علمه، ونبيلا راقيا في أدبه وحسن تواصله وإحسانه، وتخلقه بآداب الشريعة وسمت حملتها، حمل العلم فتعلم وعلم، واستبطن الخلق فتأدب وأدب. وقد ظهر نبوغه منذ صغره، فقد حدثني معالي الشيخ صالح بن محمد اللحيدان بأن الشيخ محمد كان يؤم المصلين في مدينة البكيرية منذ عام 1362ه، بل قال إنه كان يعد أصغر حافظ للقرآن الكريم في البلد آنذاك. وقد نشأت صلتي بالشيخ – رحمه الله – من صلته بوالدي – رحمه الله – حين كان قاضيا في منطقة القصيم، فقد كنت صغيرا في المرحلة الابتدائية، وكان الشيخ محمد مع أخيه فضيلة الشيخ عبد العزيز العالم الفقيه من خاصة جلساء الوالد فكنت أراه في بيتنا في بريدة يجلس مع الوالد مع بعض الجلساء الخاصين الذين يأنس بهم الوالد – رحمه الله – لعلمهم وظرفهم وحسن أدبهم وحديثهم وسعة اطلاعهم، كما كان يصحب الوالد في بعض أسفاره ورحلاته وتنزهاته لما يتمتع به من فضل وصلاح وأدب وظرف مجلس. ثم زادت المعرفة به – رحمه الله – حين انتقل إلى مكةالمكرمة فازداد القرب منه وتوثقت الصلة به – رحمه الله. ثم أكرمني الله بالإمامة في المسجد الحرام، ثم العمل تحت رئاسته – رحمه الله – نائبا له، فتوثقت الصلة، وكثير مما أدونه هنا هو بعض ما عرفته عنه – رحمه الله. الشيخ محمد – رحمه الله – من خريجي حلقات العلم حيث طلب العلم على يد والده وعلى يد الشيخ عبد الرحمن الكريديس في سن الرابعة عشرة، وأحسن تجويد القرآن على يد الشيخ سعدي ياسين. أخذ العلم الشرعي عن أخيه الشيخ العلامة قاضي البكيرية والمدرس في الحرم المكي عبد العزيز السبيل، والشيخ العلامة قاضي البكيرية محمد المقبل وسماحة الوالد الشيخ عبد الله بن حميد، كما قرأ في مكةالمكرمة على المحدثين الشيخ عبد الحق الهاشمي، والشيخ أبو سعيد عبد الله الهندي، ولديه منهما إجازة في الحديث – رحمهم الله جميعا. وبعد تحمله العلم من هؤلاء العلماء الأفذاذ فقد أداه وتلقاه عنه جملة من كبار علماء البلاد وغيرها وكان رحمه الله مسندا ومجيزا للمرويات الحديثية والمدونات العلمية، وممن درس عليه الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء، والشيخ عبد الرحمن الكلية رئيس المحكمة العليا، والشيخ مقبل بن هادي الوادعي المحدث اليمني المعروف – رحمه الله رحمة واسعة. أما أعماله فقد تولى رحمه الله جملة من الأعمال العلمية والإدارية، حيث درس في وزارة المعارف والمعاهد العلمية ما يقرب من عشرين عاما، ثم عين إماما وخطيبا في المسجد الحرام ورئيسا للمدرسين والمراقبين ومسؤولا عن الشؤون الدينية فيها عام 1385ه، ثم عين نائبا لرئيس الإشراف الديني على المسجد الحرام عام 1390ه، واستمر نائبا حتى بعد تشكيلها الجديد باسم الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ثم عين رئيسا لها عام 1411ه. وكان عضوا في المجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلامي منذ إنشائه، وعين عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، كما تولى التدريس بالمسجد الحرام منذ عين إماما فيه، كما كانت له مشاركة فاعله في برنامج الإفتاء الشهير «نور على الدرب»، كما قام بجولات دعوية وإرشادية في كثير من دول العالم الإسلامي وغيرها وكان لها الأثر البالغ في نفع الناس وحل جملة من المشكلات، كما تولى رئاسة إدارة الجمعية الخيرية لمساعدة الشباب على الزواج، ورئاسة لجنة أعلام الحرم. وقد استمر في الإمامة والخطابة في المسجد الحرام ما يقرب من 45 عاما. الشيخ – رحمه الله – في كل ما تولاه من أعمال وتعليم ودعوة وإدارة وتوجيه كان متأنيا في قراراته، مترويا في إجراءاته، يعالج الأمور بحكمة سالك مسالك الوسطية، حريصا على كسب الرضا، وحفظ الود، ولا سيما العاملون معه، حسن الإنصات في علم وصبر وأناة وحكمة. من مظاهر حكمته وحسن تصرفه ما حصل له حين اقتحم جهيمان وأتباعه المسجد الحرام فجر اليوم الأول من المحرم عام 1400ه، فقد كان الشيخ – رحمه الله – هو الإمام في الصلاة فلما فرغ من الصلاة تقدم بعض هؤلاء الأتباع مدججا بالسلاح ليتحدث من مكبر الصوت فحاول الشيخ منعه بحكمته وحزمه، وكان المنادي قد نادى لصلاة الجنازة، واستطاع الشيخ أن يصلي على الجنازة، ثم تكاثر هؤلاء وبدأوا في تعديهم وتجاوزاتهم فبقي الشيخ داخل المسجد الحرام وذهب إلى خلوته وصار يتصل بالمسؤولين ويطلعهم على الأوضاع أولا بأول، ويتلقى منهم ما يوجهون به، جلس على ذلك قرابة ساعة ونصف الساعة وبعد تفاهمه مع المسؤولين رأوا مناسبة خروجه من المسجد، ولكن المعتدين قد بدأوا بإغلاق الأبواب وتفتيش الخارجين فرأى الشيخ بحكمته وهدوئه خلع مشلحه الذي كان يرتديه – وحسب تعبير الإذاعة البريطانية في حينه قالت: «إنه خلع ملابسه الدينية»، فخرج الشيخ بحسن تصرفه ولم يستطيعوا أن يلحقوا به الأذى. ومن دلائل حكمته وفضله وثقة المسلمين فيه أنه قام عام 1415ه، بزيارة إلى جمهورية مالي بدعوة من رئيسها ألفا عمر كوناري، وكان يرافقه في هذه الزيارة معالي الدكتور محمد أحمد علي، رئيس بنك التنمية الإسلامي، وطلب الرئيس من الشيخ أن يقوم بجهود الصلح بين بعض القبائل هناك وكان قد أوشكت أن تقوم بينهما حرب أهلية، فما كان من الشيخ بتوفيق الله له ثم بحكمته وعلمه وحسن تصرفه إلا أن قام بجهود مباركة أثمرت عن قبول الصلح وحقن الدماء في ذلك البلد المسلم وحمد الناس له مساعيه المشكورة. ومما يحفظ للشيخ كذلك – رحمه الله – أنه قال في أحد لقاءاته لبعض رؤساء الدول التي يتكون شعبها من مسلمين وغير مسلمين والبلد يسوده الهدوء والنظام والرئيس غير مسلم قال له الشيخ مذكرا ومنبها: إن العدل وملاحظة حقوق الناس والنظر إليهم بالسوية هو الذي يحقق هذا الهدوء والانتظام والرضا، أما الظلم والجور فإنه عدو الشعوب وعدو الاستقرار. وكان لهذه الكلمات موقعها وأثرها على ذلك الرئيس كما قال الحاضرون، فرحم الله الشيخ، ما أحكمه وما أعقله! ومجلس الشيخ رحمه الله عامر بكل طبقات المجتمع بل من كل أنحاء العالم الإسلامي، وقد زاد من ذلك ووثقه رحلاته العلمية والدعوية، فالشيخ – رحمه الله – يكاد يكون جاب أرجاء العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه فزار المراكز الإسلامية والمدارس الدينية والأقليات الإسلامية وتوثقت بتلك الزيارات العلاقات فكان بيته عامرا بالزوار من جميع شعوب العالم الإسلامي يدفعهم لذلك كرم الشيخ ولطفه وحسن استقباله ودماثة خلقه بل لقد ظهر ذلك في يوم جنازته – رحمه الله – فقد كان يوما مشهودا في المشيعين من العلماء والغرباء والوجهاء والفقراء وكل الفئات والطبقات، فرحمه الله رحمة واسعة. والشيخ – رحمه الله – عالم متمكن في علوم الفقه والتوحيد والعربية وآدابها، والشيخ يحفظ من عيون الشعر وغرر القصائد ونوادر القصص والملح ما يعكس علم الشيخ وفقهه وفضله وظرفه وحسن حديثه وأنس مجلسه. كما أنه سريع الاستحضار للأدلة والشواهد، وجليس الشيخ لا يمل، فمجلسه مجلس علم وفقه وأدب فيه النوادر الفقهية والملح الأدبية والمقطعات الشعرية. ومع هذا العلم الغزير والفضل الكبير إلا أنه لم يكن من المكثرين في التأليف وله في ذلك سلف من أهل العلم كثير، والأسباب في ذلك معروفة من أهمها انشغالهم بالتعليم والدعوة وتبصير الناس وهو ظاهر في بلادنا لدى أئمة الدعوة وعلمائها لأن مما تربوا عليه التركيز على الدعوة إلى الله ونشر العلم والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعل ذلك من الأولويات التي لا يقدم عليها غيرها مما شغلهم عن التأليف والتصنيف. ومع هذا فقد ترك الشيخ بعض المؤلفات التي تدل على علم الشيخ وفقهه وعمق فكره ورجاحة عقله وسعة اطلاعه، من ذلك رسالته الحكيمة: «الأدلة الشرعية في حق الراعي والرعية»، وقد ألفها رحمه الله قاصدا «بيان حق ولاة الأمور على الرعية، وحق الرعية على الولاة، وما يجب لكل منهم من الحقوق، وبيان ما عليه من الواجبات، وما حمل من أمانة ومسؤوليات.. رأى – رحمه الله – الحاجة إلى بيانها في هذا الزمن داعية، والمصلحة في إظهارها مقتضية، وذلك لما في قيام كل من الراعي والرعية بما أوجب الله عليهم، من مصالح كثيرة للعباد والبلاد، دينية ودنيوية». وقد كانت هذه الرسالة مدونا مختصرا أبرز فيه معالم السياسة الشرعية وتحكيمها في تراتيب المسؤولية فركز المسؤوليات الكلية على الراعي والرعية، وأبرز جوانب التكاملية بين تلك المسؤوليات ودورها في حفظ الدين وسياسة أمور الدنيا، كما أوضح ذرائع التوفيق ووسائل النجاح للدولة المسلمة من خلال تولية الأكفاء وأصحاب الأمانات في النهوض بمسؤولية ولي الأمر في رعاية الدولة وصيانتها، وما يتحقق بذلك بنزع الفساد وتقليل الإفساد. ومن التأصيل الشرعي الذي أوضحه – رحمه الله – في هذا المدون ما اهتم أهل السنة والجماعة بإيضاحه وبيانه والتأكيد على رعايته والقيام به، وهو ما لولاة الأمور من حقوق وواجبات، ومن أوجه الاهتمام ومظاهره أن «أهل السنة والجماعة نصوا على هذه الحقوق في كتب العقائد والتوحيد، وبينوا أن هذا الأمر هو مقتضى ما دل عليه الكتاب والسنة، من وجوب: السمع والطاعة لولاة الأمر إلا أن يأمروا بمعصية، فإن أمروا بمعصية فلا طاعة لهم، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ويرون: النصح والدعاء لهم، وإعانتهم على الحق…»، كما نص أهل السنة والجماعة على أن من حقوق ولاة الأمور على الرعية: «إجلالهم، وتوقيرهم، وتعظيمهم في النفوس؛ لأن ذلك أوقع في هيبتهم، حتى يحذرهم أهل الفسق والفجور»، وقد أكد رحمه الله هذه القيمة وأثرها على دفع أسباب الفتن ونشوء النزاع في صفوف الأمة، ودعا أهل العلم والدعاة، ومن له تأثير في مجتمعه، أن يسعى جهده في الإصلاح والنصح وجمع الكلمة وتأليف القلوب ليتحقق نشر الشرع ورحمة الخلق. بمثل هذا السفر العلمي يصنع العالم الموازنة لواقعه ومجتمعه وقد ضبط ذلك بالأدلة الشرعية والمصالح الشرعية، وغياب العالم عن هذه المسؤولية هو فرار من الغاية التي اصطفي لها وتجفيف لوسائل وحدة الصف وجمع الكلمة المناط به. ولمنبر الحرم المكي مع الشيخ محمد – رحمه الله – تذكير وذكرى وله في ذلك ديوان خطب من جزأين بين من خلال خطبه السلسة جملة من الموضوعات التي قرب بها حضور الشريعة في بيان العبادة والعادة والدلالة على موطن الإشكال ودفعه وأسباب المشكلة وحلها والحث على مكارم الأخلاق والنهي عن سفاسفها. ومن مؤلفاته – رحمه الله: الخط المشير إلى الحجر الأسود في صحن المطاف ومدى مشروعيته، ورسالة في حد السرقة، ورسالة في القاديانية، وديوان شعر، ورسالة في حكم التجنس بجنسية غير إسلامية. وأخيرا، إنما كان موت العلماء مصيبة عظمى، وحادثا جللا؛ لما لهم من الأثر البالغ في صلاح العباد والبلاد.. فإن الموت سنة في الناس ماضية ومنهم العلماء، والله تعالى حافظ لدينه وكتابه. عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا». والوصية في هذا المقام أن تلتف الأمة حول علمائها، وتنهل من معينهم، وتستفيد من حكمتهم، وذلك علامة خير وفلاح وصلاح لعموم الأمة بعامة ولشبابها وناشئتها بخاصة، وهو كذلك من توقير العلماء ومعرفة حقهم ومكانتهم. وقد خلف – ولله الحمد – ذرية صالحة فيهم طلبة علم متمكنون حملة لكتاب الله، وفيهم أصحاب مسؤوليات في الدولة كبرى، زادهم الله صلاحا وإحسانا وتوفيقا. وإن لله عزاء في كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت. والحمد لله رب العالمين.. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.