في زمننا هذا, حيث طغيان المدنية المعاصرة والحضارة المادية, تتقدم قيم وتتراجع أخرى! تستقيم أو تبرز مبادئ, وتفسد أو تضمحل أخرى! وإن كان لكل زمن رجاله, فأيضا له متغيراته وأزماته, ونحن نعاني اليوم بحق أزمة رجولة! لا تعجبوا! فأنا أتحدث عن الرجولة الحقيقية, بركائزها ومقوماتها الغائبة المندثرة «أو تكاد». ليس كل الذكور رجالا, وليس كل من بسط الله له في الجسم, أو فاخر ب «شنبه» أو عضلاته أو صوته الأجشّ رجلا! فبينما تتبعثر ملامح الرجولة عند من غرق في مظاهر البذخ والترف والميوعة ونشأة الدلال والتراخي, وبين من اختلطت لديه المفاهيم فاعتقد أن الرجولة تعني الشدة والقسوة والفظاظة أو فرض الرأي والتسلط على الآخرين, نحاول أن نتلمس المعاني العميقة لهذه الصفة الجميلة, والتي جاء ذكرها في كتاب الله في مقام بيان النوع أحيانا, ووردت كصفة خص بها الخالق سبحانه جماعة من المؤمنين في مواضع كثيرة أخرى. ففي كتاب الله العزيز أطلقت الرجولة كسمة لمن صدق العهد مع الله، فلم يضعف ولم ينافق أو ينهزم, ولم يتنازل عن دينه ومبادئه (الأحزاب:23). ولمن وقف في وجه الباطل والظلم وصدع بالحق (غافر:28-القصص:20) ولمن سكنت خشية الله قلبه فاستقام وثبت على شرع الله، وانصاع لأوامر مولاه ووقف عند حدوده منصرفا عن الملهيات والشهوات (النور:37). ولمن حث على الجهاد, وحضّ على دحر الباطل بالشجاعة والتوكل على الله, ونصر الدين وأهله (المائدة:23). هكذا كانت الرجولة الحقّة في الإسلام: إيمانٌ وعزّةٌ وإقبالٌ على الرب سبحانه ودفاعٌ عن كرامة المؤمنين. إن الرجولة قيمةٌ جامعة لمحاسن الفضائل والأخلاق. فهي الشهامة والمروءة والسخاء والترفع عن الأحقاد والضغائن وسفاسف الأمور. هي تقدير الآخرين والتعامل الكريم النبيل معهم, هي القوة والشجاعة دون تهور أو اعتداء, هي العفو والإنصاف ومحاربة الظلم والذل والهوان. الرجولة لا تعني بغيا وانتقاما وتفريغا لشحنات الغضب والطيش والهمجية. فهي بالتالي تتعارض مع تلك الممارسات الجائرة الحمقاء التي يرتكبها البعض تحت مسمى القوامة! وما أدراك ما تلك القوامة التي يفهمها ويطبقها أشباه الرجال! يقول شيخنا الفاضل سفر الحوالي: «إن الرجولة الحقيقية بمعناها العميق العظيم والتي يتصف بها المؤمنون هي إيقاظ القلب، وتحريك الجوارح، وابتعاث الهمة لإعلاء دين الله تبارك وتعالى، هذه هي الرجولة التي يجب أن نتربى عليها ويجب أن نتعلمها». وبناء على ما تعيشه أمتنا الآن نقول: ما أحوجنا لمثل تلك الرجولة. وما أشدّ تعطشنا لها في أسرنا ومجتمعاتنا. اللهم أصلح أحوالنا, وهب لنا من أمرنا رشدا.