الحمد لله الواحد القهار .. ملأ الحج بالأسرار واصطفاه للأبرار وحرم منه الأشرار .. والصلاة والسلام على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم .. وبعد : ففي الحج منافع دينية ومنافع دنيوية .. فمن منافع الحج : 1) تحقيق التوحيد لله الواحد القهار فإن الله هو الواحد في ألوهيته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته ، والتوحيد هو حق الله على العبيد ومن حقه على عبيده أن يؤدوا هذا الحق العظيم لقوله تعالى ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( حق الله على العبيد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) . والتوحيد هو الذي أنزلت من أجله الكتب وأرسلت من أجله الرسل وخلقت من أجله الدنيا والآخرة ومن أجله خلقت الجنة والنار وشرع من أجله الجهاد . ويتحقق التوحيد في الحج من أول أعماله وهو التلبية التي تتضمن التوحيد ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ) قال جابر بن عبد الله : أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد أي لبى بهذه التلبية ، ويتحقق في الطواف إذ يبدؤه بذكر الله وينهيه بذكر الله ويضمنه الدعاء ويتحقق في السعي بين الصفا والمروة إذ يردد التوحيد أربع مرات على الصفا وأربع مرات على المروة ويتحقق في عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم ( أفضل الدعاء دعاء عرفة ، وأفضل ما قلت أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) ويتحقق في جميع أعمال الحج . 2) الاستجابة لله تعالى فإنه الذي أمر بالحج وهو الذي جعله ركناً من أركان الإسلام وهو الذي أرسل رسله به ليدعوا الناس إليه فمن أجابه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار ، قال تعالى لإبراهيم ( وأذن في الناس بالحج ) قال ابن عباس ( فبلغ هذا الأذان كل من سيحج ) ولذلك يقول المؤمن إجابة لهذا النداء ( لبيك اللهم لبيك ) وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه ( لتأخذوا عني مناسككم ) وتظهر استجابة الحاج لله في ترك وطنه وولده وزوجته وأهله وجيرانه وعشيرته وترك ماله وزراعته وتجارته وترك المألوف من الثياب والطيب وبذل المال وتحمل المشاق والتقيد بزمن الحج وبمكان الحج والالتزام بعمل جميع أركان الحج فلا يقول من الكلام إلا المشروع ولا يعمل من الأعمال إلا المشروع وأهل الاستجابة هم الراشدون الذين أصابوا الصواب لقوله تعالى ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) . أهل الاستجابة هم أهل الحسنى لأنهم أحسنوا في الدنيا فلهم الحسنى في الآخرة ، لقوله تعالى ( للذين استجابوا لربهم الحسنى ) ولاستجابتهم أجابهم الله يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( الحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوا وسألوه فأعطاهم ) . 3) تعظيم شعائر الله وتعظيمها من تقوى القلوب لأن من كان بالله أعرف كان منه أخوف ولأنه لا يعظم ما عظمه الله إلا العظماء والذين عظمت أعمالهم وعظمت آخرتهم ويتحقق هذا التعظيم من تعظيم البيت الحرام لأن الله عظمه فهو أعظم بقعة في الأرض وهو البيت الحرام الذي حرمه الله يوم خلق السموات والأرض وأبقاه محرماً إلى يوم القيامة لا يحل فيه قتال إلا ساعة واحدة لرسول الله وحرم صيده كالميتة وحرم قطع شجره إلا ما استنبته الآدمي أو الإذخر وحرم لقطته إلا لمن يريد أن يعرفها وجعل للبيت حرماً ولحرم البيت حرماً وليس هذا لأي بقعة سواه وجعل الطواف ركن من أركان الحج والعمرة وعظم الصفا والمروة إذ جعلها من شعائر الله وجعل السعي بينهما ركن من أركان الحج والعمرة وعظم عرفة وجعل الوقوف بها ركن من أركان الحج وعظم المشاعر كلها فلا عظيم إلا الذي عظمه الله . 4) التوكل على الله وحده والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه في الوجود كله ، وهو الذي يفعل ما يريد وأهل التوكل على الله هم أهل الإيمان لقوله تعالى ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) ومن يتوكل على الله فهو كافيه وحافظه لقوله ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتعود بطانا ) ويستفاد هذا من توكل إبراهيم عليه السلام على ربه في ترك زوجته هاجر وابنه إسماعيل في مكة وليس فيها أنيس ولا حسيس وليس فيها ماء ولا شجر وليس فيها أحد من الناس ويولي عنهما وتقول له هاجر ( لمن تتركنا ) ثلاث مرات ثم تقول : هل الله أمرك ؟ قال : نعم ، قالت : فإن الله لا يضيعنا ، ولما نفذ الماء والطعام الذي تطعمه لابنها سعت بين الصفا والمروة مع علمها بعدم وجود أحد لكنها متوكلة على ربها باذلة للسبب حتى جاءها جبريل فحفر بجناحه ماء زمزم فكان لما شرب له . 5) مخالفة المشركين والذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون والذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والمشركون هم أعداء الله وأعداء رسله وكتبه وملائكته وأوليائه ، وتتحقق المخالفة لهم بالتلبية التي تخالف تلبيتهم فإنهم يقولون : لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ، ومخالفتهم في الطواف إذا كانوا يطوفون وفي الكعبة صنم هبل وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ومخالفتهم في السعي إذ كانوا يسعون بين صنمين أحدهم على الصفا والآخر على المروة ومخالفتهم في عرفة إذ كانوا لا يقفون بها ويقولون هي في الحل ونحن أهل الحرم ، ويرون أن أهل الحرم لا يخرجون منه ويقفون بمزدلفة ويبقون بها ومخالفتهم في مزدلفة إذ كانوا لا يرحلون منها إلا بعد طلوع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نفير وغير ذلك من البدع والشرك . 6) مداومة العمل الصالح وعدم انقطاعه ويتحقق ذلك بمداومة التلبية حتى الطواف ثم الصلاة بعد الطواف ثم السعي بين الصفا والمروة ثم الإقامة بمنى ثم الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى أيام التشريق ورمي الجمار ودوام الذكر ، لأن الطواف والسعي والوقوف بعرفة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ، ولذا شرع الذكر قال تعالى ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم ) وشرع الاستغفار قال تعالى ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ) وشرع في الدعاء ستة مواضع عند الصفا وعند المروة وفي عرفة ومزدلفة وعند الجمرة الصغرى والوسطى . 7) الزهد في الدنيا لأنه تقلل منها وترك زينتها وأموالها وزخرفها فيترك اللباس والرفاهية والتنعم والأموال والأولاد ويكون الشعث والاغبرار . 8) تذكر الآخرة بالسفر الذي يذكر السفر إلى الآخرة ويلبس الإحرام الذي يذكر بالأكفان وبالوقوف بعرفة الذي يذكر بيوم الجمع في عرصات القيامة وصغار الشيطان ودعاؤه بالويل والثبور يوم عرفة كدعائه بذلك يوم القيامة ونحو ذلك مما يشحن في القلب إيمانه ويذكره بمآله. 9) اتحاد المسلمين واجتماعهم وتعاونهم والتقائهم في هذا الاجتماع المبارك فيأتلفون ويتحابون ويكونون كالجسد الواحد وكالبناء الواحد ويتناصحون ويكونون يداً واحدة على عدوهم وقد شرع الإسلام لهم اجتماعاً يومياً ثم أسبوعياً ثم سنوياً ليكونوا أخوة تقوى أخوتهم وتبقى . 10) تطهير القلب وتطهير الجوارح وتطهير المال ، فإن من العبادات ما هي روحية كالتوحيد ومنها ما هي بدنية كالصلاة والصوم ومنها ما هي مالية كالزكاة ومنها ما هي بدنية ومالية وهو الحج . 11) تبادل المنافع بين المسلمين زراعية أو صناعية أو طبية أو علمية أو تجارية وهذه منافع دنيوية . 12) تعلم الصبر والنظام والمحبة والتعاون وحب الجهاد ونحو ذلك مما هو من منافع الحج العظيمة .
فنسأل الله أن يجعلنا ممن انتفعوا بحجهم في الدنيا والآخرة وممن كُتب لهم القبول فيه . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.