يمكن تقسيم الناس في التعامل مع الظواهر، والأزمات، والأشياء المستجدة إلى نوعين: أحدهما من يمتلك مهارة التيسير، والتبسيط، والمبادرة بالانطلاق من أجل الوصول إلى الهدف مباشرة دون وضع الكثير من القيود، أو التعقيدات أو الخطوات. والآخر: المولع بالتعقيد، الماهر في التنظير، المنشغل بكتابة المراحل والمستويات والخطوات، وإعطاء كل خطوة وزنها المعياري، وتحديد درجة أولويتها، ومدى تأثيرها، والتأمل في التوجهات الاستراتيجية التي ستثمر ثمرة بعيدة – حسب توقعاته-. وكم يروق لي جدًا تلك المقولة الشعبية الرائجة لدى عائلتي: (افتكّت الهوشة وابونا يحتزم). وهي تروي حال رجل أخبره أهله وهو جالس بينهم، أن ثمة خصومة كبرى في الشارع المجاور للبيت، وأن الضرب المتبادل بين الطرفين قائم الآن، وأن الحاجة ماسة (الآن) لقيامه شخصيًا بالتدخل السريع لإنهاء الخصومة، وفك النزاع بينهم، فلما سمع منهم ذلك عزم على التدخل فعليًا، واقتنع بذلك، فانصرف لا إلى المتخاصمين، وإنما نحو غرفة ملابسه، وأخذ يخلع ملابسه التي عليه، ويبحث ويستكشف ويختار اللباس الذي يتناسب مع فك الخصومات، ثم يجهز نفسه بالتجهيزات اللازمة لهذا الخطب الجلل، ويلبس الحذاء الأكثر مناسبة لهذه الحال، وفيما هو منشغل بالتجهّز والتحزّم، انتهى الخصوم من خصومتهم، وانتهى النزاع (الهوشة)، وتفرق القوم، وهو لا زال في مرحلة الاستعداد. وهذا المثل ينطبق – وللأسف – على كثيرين! أولئك الذين حين تحلّ بهم أو بمجتمعهم أزمة ما، فإنهم ينشغلون في دراستها بتأنٍّ بالغ، ويشكلون اللجان المتخصصة التي تجتمع على مهلها لدراسة الأمر، وتتباحث في الأسباب، وتعقد ورش العمل، ومجموعات التركيز، وتقوم بتصميم الاستبانات، وتوزيعها وتحليلها، ومتابعة الوضع عن قرب وعن بعد، من أجل مزيد من الفهم للظاهرة أو الأزمة، ومعرفة الأسباب الفعلية لها، والبحث عن أفضل الممارسات العالمية للتعامل مع أمثالها، وزيارة الجهات التي سبق لها أن قامت بأعمال مشابهة، وتقييم تجربتهم في هذا السياق!. وأثناء تلك الدراسة العميقة، وعثور أولئك القوم على الخيوط الأولى للحل، وبدايتهم في رسم المسار الذي يرونه أسلوبًا للخروج من الأزمة، يكتشفون أن الأزمة برمّتها قد زالت، وأنهم جاءوا متأخرين جدًا، أو بعد خراب مالطا – كما يقال-. إن (المبادرة) بالحل، والسعي (العاجل) للتعامل مع المشكلات لا يقل أهمية عن العثور على الحلول (الأنسب)، لأنه في كثير من الأحيان يكون الحل الجزئي، وغير المدروس، وغير الاستراتيجي هو واجب الوقت، وهو الذي ينقذ ما يمكن إنقاذه، أما التأمل المتأني، فربما أودى للكارثة. وهو أشبه بمن يقوم بدراسة الطرق الآمنة والمضمونة للدخول إلى منزل يحترق الآن، فيحرص على استشارة المكتب الهندسي للحصول على النقاط الأيسر لدخول المنزل، ومعرفة أماكن الأعمدة والأبواب والنوافذ والسلالم، وعدادات المياه والكهرباء، من أجل أن تكون خطة الإطفاء النموذجية جاهزة ومكتملة تمامًا، ولكن بعد أن أصبح البيت رمادًا تذروه الرياح! ما أحوجنا إلى ترك المبالغة بالتنظير، والتوجّه نحو العمل بإطلاق المبادرات على ارض الواقع. وربّ مبادرة فردية، غير مدروسة، وغير ممنهجة، وبدون دعم مالي، تحدث أثرًا بالغًا، ويتحقق بها خير كثير، وتصل إلى المستفيدين بشكل يشبه العدوى، بما لا تفعله تلك الأطر النظرية، والأدلة المنهجية، والحقائب التدريبية، والورش التخصصية. وهذا بطبيعة الحال لا يعني التوصية بترك التخطيط، او تجاهل الدراسات، لكنه يعني وبكل تأكيد أولوية التحرك نحو العمل، حتى لا تطير الطيور ونحن منشغلون بدقة التصويب. شكرًا للمبادرين، الذين يحدثون الأثر.. وإني لأشد على يديهم، وأبارك لهم صنيعهم، وأسأل الله أن يكثر من أمثالهم، فهم القادة الحقيقيون، وهم المؤثرون الفعليون، في وقت كثر فيه الكلام، وقلّ فيه العمل. دمتم بخير. محمد بن سعد العوشن