في بقعة من عالمنا الفسيح، اعتاد أحدهم أن يقبع خلف نافذة صغيرة، يعلو إحدى زواياها خيوط عنكبوت هجرت بيتها منذ أمد بعيد، ففعلت به الريح الأفاعيل، بيته البسيط المكون من طابق وغرفتين متواضعتين في الاعلى يحتل ناصية في حيّ مكتظ بالناس، والمنازل المكونة من طابق أو اثنين، وبينها ما بينها من مظلات، أو فراغات تتكدّس فيها جميع ما لا يصلح للاستخدام، يجلس بطلنا بعد العصر، وأحيانا بعد المغرب، وأحايين كثيرة يجلس في وقت متأخر من الليل ، هو شخص كتوم، لا يتحدث كثيرا ولكنه يعلم الكثير، ويلاحظ أكثر، يدقق في التفاصيل الصغيرة، تعوّد أن يغير مكان جلوسه بين نافذتين، إحداهما تشرف على حديقة صغيرة مهملة تتبع منزله، والأخرى تطل على الشارع الذي لا ينام رغم بساطته، وتواضع المنازل المتراصة على جنباته، تختبئ خلف النوافذ حكايا تروى، و أسرار تستقر في العمق، ضحكات ودموع، أنين وحنين ،آمال وآلام .. خلف النوافذ والأبواب أجساد غضة لأطفال تبرق في وجوههم أعين مشعة، تتطلّع لمستقبل زاهر وابتسامات مشرقة، محلقة في فضاء البراءة والطهر.. وهناك قلوب ترفّ بالحب، والمشاعر، والأحلام، والأمنيات، لشباب يذرعون الطرقات جيئة وذهابا، يأملون في فرص العمر لبدء حياة جديدة وقد هدّها التعب وأرهقها الانتظار.. وهناك أجساد هزيلة أنهكها المرض والسقم، حتى لم تعد قادرة على مغادرة مطارحها إلا لتعود إليه بأنفاس متلاحقة، ووجوه صفراء شاحبة، وهناك وهناك … عالم من البشر تتباين في كل تفاصيلها.. يمتدّ بصره إلى نهاية الشارع، يتأمل البيوت الصغيرة ويعود بذاكرته إلى طفولته كيف كان يقف حافي القدمين! وينظر بإعجاب إلى ذلك الرجل القادم من تلك البلاد البعيدة ليقوم ببناء هذا البيت بيدين معروقتين، وحبات من العرق تتساقط من جبينه الذي لوّحته الشمس فأكسبته لونا برونزيا! لماذا هو قويّ؟ لماذا لا يكون أبي مثله فيبني منزلنا بيديه؟ وقتها كانت أسئلته بريئة جدا، واليوم وهو يسند رأسه على راحتيه يفكر بشكل مختلف!! هل كان للرجل أطفال؟ وهل يحب عائلته لهذا غادرهم ليُؤمّن مستقبلهم فيكبرون وهو لا يراهم؟ هل يستشعر الأبناء تعب الأمهات والأباء؟ ويقطع حبل تفكيره امرأة تسير تحت نافذته، وهي تجر خلفها طفل يحاول جاهدا التخلص من قبضتها ليعود للعب مع أقرانه، يتساءل وهو يرقبها لِم تفعل ذلك؟ هل هو بدافع الحب له، والخوف عليه، أم الخوف من والده الذي ما فتأ يؤنبها على أهمالها كما يدعي وكأنه ليس أبا له أو مسؤول عنها؟ ولِمَ يقاوم الطفل؟ هل السعادة مفقودة في بيته؟ أدار بصره نحو نافذة صغيرة مهملة في أقصى اليسار من الشارع الضيق، وعلق بصره بمصباح يتأرجح يتدلى منه شريط بلاستيكي قديم التف على نفسه بفعل التقادم، وأطال النظر إليه من كان يشعل هذا المصباح ؟ هل كان يقرأ كتابا أم كانت سيدة تحيك بأصابعها كنزة صوفية؟ ويتساءل لو انطفأ المصباح هل سيفتقده أحد ويسرع لإشعاله؟ أم سيترك حتى يهترئ ويسقط ؟وهناك في ناصية الشارع مقعد قديم جدا، غُطي بقطعة اسفنج بالية، تغطيها سجادة للصلاة اختفت بعض معالم رسوماتها في مشهد يؤكد تعلق قلوب أهل هذه القرية بالصلاة، كان بعض المسنين من أهل هذا الحي يتناوبون للجلوس على هذا المقعد فيتحلق الجميع حول الجالس منهم يتحدثون في كل شيء !! وتخوفهم من المستقبل وكيف سيكون؟! وتذكر كيف كان يقف أحيانا منتصبا يستمع لأحاديثهم المكررة بلا مبالاة، وقد عقد يديه على صدره وثنى ركبته مستندا على الجدار، وعاد إلى نفسه يتفقدها، وماذا بعد يا هذا؟ إلى أين وصلت؟ عالمك الصغير الذي تراقبه في طريقه إلى التحول والتبدل، وأنت أنت لم ولن تتغير! سحب من صدره نفسا عميقا جدا وهو يرسل بصره إلى مئذنة أعلى قليلا من أسقف بيوت القرية، وارتسمت صورة لذاك الشيخ الوقور ذو اللحية البيضاء، التي تحيط بوجهه اللطيف مثل هالة من نور، تساءل كيف لهذا الشيخ أن يؤثر فيه حتى وإن لم يتحدث إليه؟! بل أي سحر يملكه ليكون محط لنظراته لتتعلق في قسمات وجه الرجل؟ عاد ينظر لنفسه من الداخل، يتفقدها، أليست أولى بتفقده أكثر من هذا الشارع الصغير؟ وحادث نفسه بصوت مسموع إلى متى يا رجل؟ قفل راجعا حيث غرفته الصغيرة في أعلى سطح منزلهم الطيني، دلف إليها وعلق بصره على جدرانها التي غطى بعضها ببعض صحف قديمة، تتوسطها صور بعض الساسة والمشاهير، تحسس بعضها بيده وكأنه لا يريد للغبار ان يتوسدها، ألقى بجسده على سرير خشبي عتيق وهو يتأمل نافذة صغيرة تبدو من خلفها السماء بزرقتها، أغلق عينيه، يحلم مستيقظا بأن سيكون يوما على صدر صفحة حديثة وملونة يتناقلها الآخرون، فأنا أفكر إذن أنا موجود، ولكن كيف سيكون ذلك وأنا المتقوقع على نفسي دون حراك؟ وفجأة قفزت في ذاكرته صورة الشيخ الوقور وهو يتحدث إلى أحدهم ذات مساء ويذكره (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) هنا لمع في عقله هدف غاب عنه طويلا، وقرر أن يغير واقعه و ضم قبضته بقوة وهو يقول : ابدأ الآن قبل فوات الأوان. كتبه/ أ. جواهر محمد الخثلان