الحياة في الريف مختلفة هادئة وهانئة ، جميلة، الناس هنا ودودين بسطاء، الهدوء في الطرقات والمساكن وحتى في الحقول لك أن تتخيل أجواء قرية نائية تقبع وادعة بين جبال شاهقة، تغتسل بيوتها البسيطة بالمطر فتختلط رائحة الأرض بالقهوة في تناغم يشعرك بالأصالة ، وعند توقف المطر تبدأ في أذنيك معزوفة طبيعية لطيفة، مابين صوت قطرات المطر الآتي متأخرا من أطراف سعفٍ رُص بعناية على سقف ثبّت على أوتاد من أشجار أثل عتيق، إلى صياح ديك يؤذن ويكرّر الأذان سعيدا بالأجواء الساحرة، وخيوط الشمس تتسلّل بين فينة وأخرى بين طيات السحب في خيوط ذهبية ناعمة ، وهناك عصافير بحجمها الصغير ولونها البني الداكن مختلطا باللون الرمادي تحط وتطير، تشقشق مبتهجة بالمطر، وهناك أطفال القرية صبية وبنيات، النقاء دثارهم، والبراءة عنوانهم، أطلقوا سيقانهم في سباق للخوض في الوحل بلا وجل، وقد تبلّلت ملابسهم البسيطة بالمطر حتى بدت شفاههم السفلى ترتجف وأسنانهم تصطك من البرد فلا يبالون فرحا وسرورا، وشيخ مسن يجلس على عتبة صخرية، أمام باب خشبي صغير يرقب سبعا من الضأن تأكل شجيرات استطالت بجانب جدران منزله، وقد أسند بجانبه عصا يتوكأ عليها حين يقوم، وامرأة توشحت بعباءة سوداء طويلة لا تبالي بما علق فيها من ماء وطين، تحمل فوق رأسها محفرة من سعف وقد بدا منها بعضا من خضروات جلبتها للتو من الحقل الصغير القريب من بيتها الطيني . مطر العشة يستمر في التساقط، يرسم على وجه الأرض المحيطة معالم جديدة في إعلان منه أنه قادم ولو تأخر، تهدأ الأجواء، وتأوي الطيور لأعشاشها، وتبسط الشمس أشعتها، ويتحلق الصغار حول نار أوقدها الكبار لتبعث الدفء في الأجساد الصغيرة.. ويستمر تساقط مطر العشة يحفر أخاديد على الأرض يتتبع السهل المنبسط منها ثم يجتمع فيما يشبه البحيرات الصغيرة في القرية لتكون في الغد متعة الصغار وهم يخوضون فيها وضحكاتهم تتعالى في سعادة . العشة تمثل لأهل القرية مظلة حماية إن لم تكن على أسقف البيوت، فهي لهم كالمخازن يجمعون فيها حتى البهائم، وعلاقة المطر بالعشة علاقة عجيبة تسحرك برائحة الخوص حينما يبلله المطر بصوته العذب، وهو يتساقط بتتابع وهدوء فيأتي سيله متأخرا جدا عما حوله.. حتى أن مطر العشة ارتبط في أذهان الطيبين بأولئك الذين يأتون للمناسبات، أو الاجتماعات، أو حتى وجبات الأسرة متأخرين وقد فاتهم الكثير من المتعة فيقال لهم هؤلاء مثل ( مطر العشة ) الحنين للقرية وطقوسها يتنامى، لا سيما في مواسم الأمطار والبرد.. العشة ومطرها المتساقط أيقونة للقرية ولا شك، بل هوية واضحة المعالم، تثير في قلب كل من سكن القرى يوما ما شوقا عارما، وحنينا لا يجارى للطرقات، والناس، والنخيل الباسقات، كل هذا إرث شعبي يتوارثه الأبناء عن الأجداد . كتبه/ أ. جواهر محمد الخثلان