التعبير ليس حصة مدرسية تختبر جودة الأسلوب والخطابة أو الإملاء والنحو، بل هي ملكة حيوية سابقة لهذه الشكليات المخترعة لاحقا والتي ما زلنا نلوم بعضنا بعضا حول إجادتها قبل أن نلوم أنفسنا على محدودية التعبير ذاته. فالتعبير ملكة ذاتية كباقي ملكاتنا الحيوية تطورت أدواتها مع الزمن ليرتقي بها الإنسان ولتكون معيار صحته النفسية؛ حيث يستطيع عن طريقها الموازنة بين عوالم ذاته الداخلية المعقدة وما ينازعها من غرائز وخيالات وأفكار، وبين عوالم واقعه الحقيقي المحيط به وما تفرضه عليه من مواقف اجتماعية متنوعة. وهذه الموازنة لا تكون إلا عن طريق رموز لغوية طورها المجموع الإنساني عبر الزمن بشكل جدلي بين الفرد والجماعة لتكون هذه الرموز على اختلاف أنواعها إشارة ونطقا أو رسما وكتابة هي الجسر الواصل بين عوالم الذات وعوالم الواقع المعيش. كلمة تعبير جذرها الأساسي «عبر»، وفي هذا تأكيد تاريخي لغوي على فعل العبور الذي توفره لنا هذه الملكة، والآن فلنتخيل أن هناك من يريد مساومتنا على عبورنا من الذات للآخر أو انتقاد أساسات هذا الجسر الحامل وشكلياته لا محموله، أو أن هناك من يريد - وفقا لتقليد متكرر- تقييدنا بخطوط حمراء لا نتجاوزها إلا بإرادته مع احتمال عدم تجاوزها أبدا ما دامت لم تستوعب ذهنيته المغلقة على ذاتها والمتصالحة مع قديمها أي تحديث، مع العلم أن هذا العبور أو التعبير الذاتي قد يكون ما زال في طور السؤال ومازالت هناك فرص ممكنة من المساءلة والنقاش دون الحاجة إلى التخوف أو المزايدة على نوايا للتو ظهرت في شكلها المنطوق أو المكتوب. وبالتالي هي ما زالت محاولة رمزية خارجية ذات خامة مختلفة كليا عن خامة الأفكار والعواطف الداخلية، لذلك نحن فقط في حاجة إلى ضمان سلامة هذا الجسر وفعاليته في كلا الاتجاهين «الحوار» حتى تخرج هذه الأفكار بشكلها الأقرب لروح المعنى لأنه بات من المعروف أنه مع كل الضمانات المعنوية والحقوقية التي تم تطويرها إلا أنه ليس هناك تعبير تام ولكن هناك محاولات دائبة ومستمرة لتقليص هذا الفارق بين المُراد والتعبير، وهذا بالطبع لا يقلل من جدوى التعبير بقدر ما يفرض المزيد من ضماناته وحرياته حتى لا يضطر أفراد المجتمع إلى خيار مرضي هو الأسوأ من نوعه أي النكوص للذات وما يرافقه من تهويمات نفسية لا تأتي بخير أبدا. قمع التعبير بذرائع من نوع الحفاظ على المجتمع وصورته أصبح مرفوضا صحيا ومنطقيا في ظل ثقافة فردانية عالمية معها النظرة للأفراد وما يفعلونه تخصهم ولا تتجاوزهم لتنعكس على مجتمعاتهم، كما أن المجتمع الذي يخشى من تعبير فرد أو مجموعة من الأفراد، فيهم الصغير والكبير، ومنهم الجاهل والمتعلم، هو مجتمع لا يزال في حاجة إلى الكثير من الثقة بين أفراده وإلا فما يمنع المجتمع ممثلا في نخبه ومثقفيه المؤمنين بمسلماته وخصوصياته من الحوار مع هؤلاء الأفراد المغايرين فكريا وثقافيا دون النزوع مباشرة للمطالبة بمحاكمات لا تليق بأجواء فكرية مسالمة ومتغيرة، بل تقود باتجاه تعاظم مشاعر الخوف وعدم الثقة لتتمكن هذه المشاعر من ذوات الأفراد فتقمع أي إبداع محتمل، لا يمكن أن يتشكل إلا في سموات من الحرية التي لا تخلو من بوارق دهشة طفولية تجاه مسلمات ثقافية أو دينية ليتبع ذلك استفهامات قد يعتبرها المجتمع بوعيه التقليدي ساذجة وغريبة أو مستنكرة وجريئة، ولكنها مرحلة المخاض الصعب والطريقة الوحيدة لاستمطار حب المعرفة والتقدم لدى الأفراد وبالتالي استزراع صحة مجتمعية تعبيرية ونفسية أفضل. تركي التركي