لم تكن حادثة اعتداء مختل عقليا بقتل أبنائه الثلاثة بالطائف في غرة رجب 1430ه، أو اعتداء مختل على والدته في 2 رمضان من العام نفسه، أو قتل مختل لشقيقه في ذي القعدة 1430ه، في الطائف، هي مجمل الحوادث التي يتورط فيها المختلون عقليا، مهددين المجتمع بأسره، بسلاح لا يعرفون قيمته ولا خطورته. كما أن جريمة الخمسيني الذي قتل طفل الرابعة قبل شهرين تقريبا، ليست الحادثة الأخيرة التي يمكن أن يتوقف بعدها نزيف الألم من فئة وجدت نفسها مقيدة بمصير المرض، فلا أمنت على نفسها من المخاطر، ولا أمن المجتمع من مخاطرها. لكن إذا كان المختل عقليا شخصية لا تعرف مصير أفعالها، ولا تقيم تصرفاتها، فلماذا نعول عليهم في درء مخاطرهم عن المجتمع؟ وأين الدور المجتمعي الذي يحمي المختل من تصرفات لا تحمد عقباها؟ ويؤمن المجتمع من أفعال لا تجرم نظاما، ولا تحرم شرعا؟ تسريح خطر باتت النظرة التي ينظرها بعض أفراد المجتمع إلى فئة المختلين عقليا، ذات مكيالين، فما إن يواجهوا بالانتقاد لتهاونهم في ترك المختلين يصولون في الشوارع ويجوبون الطرقات، حتى نجدهم يشهرون عصا الرأفة، ويطالبون الجميع بمعاملتهم برحمة لأنهم «قوم لا يعلمون»، ويقللون من حجم المخاطر التي يمكن أن يرتكبها المختل، سواء في حق نفسه أو في حق أسرته أو حقوق المجتمع، لكن إذا وقعت جريمة اعتداء طرفها ذلك المختل، سارعوا بإشهار غصن الزيتون، على أنها حالة استثنائية، لا يجب التعامل معها بغلظة، ويجب أخذ الحالة النفسية في الحسبان، وسرعان ما يشهرون اشعار المرض النفسي، ليخرج المريض من القضية «كالشعرة من العجينة». الأمر الذي يجعل الكثيرين يلجؤون إلى طوق النجاة المتمثل في شهادة مريض نفسيا، للهروب من القصاص في حالات القتل، أو السجن في حالات الجرم، على الرغم من حملهم المستمر للسلاح بكل أشكاله وأنواعه. فهل تسريح المريض في الشارع خطر يهدد المجتمع. وإلى أي مدى يتنصل أهله من احتوائه لينقلب إلى شخص عدائي يقتل ويصيب؟ وما سر إطلاق هذه الدلالات عليه أمام الناس؟ الاستغلال والخطر في مايو الماضي قبضت دوريات أمن الطرق في محافظة الحناكية في منطقة المدينةالمنورة على مواطن «30 عاما»، تهجم عاريا على امرأة داخل دورة مياه نسائية في محطة وقود تقع على طريق المدينة – القصيم، السريع. وربط بعضهم بين التصرف غير المنطقي والمرض النفسي. لكن الجرم الأبشع كان في قرية عرعرة، التابعة لمحافظة بلقرن بمنطقة عسير، الذي وقع في 10 إبريل الماضي، حيث قتل خمسيني طفلا في الرابعة من عمره، بطعنه بسكين حتى فارق الحياة. واتضح لاحقا أن المعتدي كان في حالة غير طبيعية. وفي فبراير الماضي اعتدى خمسيني في الأحساء على عدد من السيارات، وانتهك حرمة بعض المنازل عاريا، قبل أن يحاول الانتحار معتليا سطح إحدى البنانيات، إلا أن الدفاع المدني نجح في السيطرة على الموقف، وأنزله من البناية، لكنه اعتدى على رجل أمن بقطعة حديدية، واتضح أيضا أنه مختل عقليا. وسجل العام الماضي اعتداءات جديدة على خريطة المرضى النفسيين، إذ تم استغلال مختل عقليا في ترويج المخدرات، حيث استخدم ضعاف النفوس في القنفذة مريضا كوسيط بينهم وبين الزبائن، ليجد نفسه في قبضة رجال المكافحة، في حادثة تعود إلى إبريل 2009. وفي العام نفسه تعددت انتهاكات المختلين عقليا لأمن المجتمع، إذ بادر مختل بإثارة الرعب ضد سكان أحياء الخوبة «40 كيلومترا شرق وادي الدواسر» محاولا اقتحام المنازل. وفي مارس 2008، أثار مختل عقليا القلق في أوساط طالبات جامعة أم القرى والمارة في حي الزاهر، وأمضى المختل وقتا طويلا يتمتم بعبارات غير مفهومة، فيما منع مختل عقليا بعض المصلين في حي النورانية من الوصول إلى المسجد لأداء صلاة العشاء. مظلومون ولكن! محمد نموذج لمريض نفسي تماثل للشفاء، اعتبر استمرار وصفه بالمختل رغم شفائه يدفعه للتهاون في الأفعال، في ظل استمرار النظرة السلبية تجاهه: «ما زال أهلي وجميع من حولي ينظرون إلي على أنني مختل عقليا، لذا لا ضرورة لادعاء شفائي، وأعتقد أن مقولة مختل عقليا، بوابة واقعية للاعتداء والإيذاء، رغم أن المريض النفسي يعد شخصية حساسة، لو عومل بطريقة ودية احتوائية لخفت تصرفاته الطائشة». لكن محمد يرى أن معاناته مع أهله هي السبب في الإقدام على أي رد فعل عكسي قد يؤذي به نفسه أو الأقربين، أو حتى المجتمع، في ظل عدم حساب عواقب الأمور: «عانيت إهمال أهلي وأقربائي حتى أشهرت السكين في وجه شقيقي الأصغر، ومن المفارقات العجيبة أن زوجتي هربت إلى أهلها بتأييد منهم في بداية مرضي، خوفا عليها من تصرفاتي، وبعدما شفاني الله عز وجل أردت استعادة أبنائي وزوجتي، فصدموني بالتأكيد على أنني مريض نفسيا، ما زلت تحت العلاج، ويبدو أنه لا مجال للشفاء من هذا الوباء إلا بالموت». ويرى تجول المرضى النفسيين بمفردهم في الشوارع، مسؤولية أهلهم: «هؤلاء مسؤولية أهلهم وذويهم، ويجب معاقبة المتسببين في ذلك، لأنه من الممكن احتواء مرضاهم، وبذل المزيد من الجهد لعلاجهم، أو احتضانهم بشكل لا يتسبب في إيذاء الآخرين». عدم التعاون من جانب آخر، أعابت صحة الطائف على بعض ذوي النزلاء النفسيين لعدم التعاون في تسلم الحالات المتحسنة التي يمكنها التعايش خارج المستشفى. وأوضح الناطق الرسمي سعيد الزهراني أن هناك تنسيقا مع بعض ذوي المرضى غير المنومين، حيث تزورهم فرق الرعاية المنزلية في منازلهم بشكل دوري، سواء أسبوعيا أو شهريا، وبلغ عدد المسجلين في هذا البرنامج نحو 245 مريضا، والعدد في تزايد، خصوصا أن بعضهم استجاب لهذا البرنامج بشكل كبير وملحوظ. وأوضح أن أبرز المشكلات التي تعترض العمل تتمثل في رفض بعض أهالي المنومين الذين أتموا العلاج، تسلمهم: « وصل لدينا 300 نزيل لا يحتاجون إلى العلاج وفق تقارير طبية تثبت صحتهم وقدرتهم على الاندماج مع شرائح المجتمع، ولا يحتاجون إلى البقاء في المستشفى، لكنهم ما زالوا داخلها لرفض ذويهم تسلمهم، على الرغم من أن بإمكانهم استكمال علاجهم في محيط أسرهم، كون حالاتهم مستقرة تماما، وهذا يتسبب في كثرة التزاحم في المستشفى، إلى الدرجة التي لا نتمكن معها من توفير سرير لمحتاج إليه، لارتفاع نسبة الإشغال، فنضطر إلى إبقاء المرضى أحيانا في أقسام الطوارئ لحين توافر سرير». لا نرفض التنويم ونفى رفض صحة الطائف استقبال وتنويم بعض الحالات: «لا نرفض أي حالة تستدعي الدخول بتاتا، لكن مرضى الشوارع والحدائق ليس لنا بهم دخل، فمتى ما وصل المريض إلى المستشفى، يتم علاجه أو تنويمه»، مشيرا إلى أن مستشفى الصحة النفسية «جهة علاجية وتستقبل جميع الحالات من خلال أقسام الطوارئ أو العيادات الخارجية، ويخضع المراجع للفحص الطبي من قبل أطباء متخصصين في مجال الطب النفسي، لا يترددون في التوصية بتنويم أي حالة متى استدعت ذلك». عقد نفسية ويصف الاختصاصي النفسي الدكتور عبدالرحمن العمري المريض النفسي، بأنه «شخص معرض دائما للإصابة بإحباط نفسي وعدم ثقة بالنفس، والانهزام النفسي وعدم الإحساس بالأمان، ما يؤدي إلى نشوء عقد نفسية داخله، قد تتطور وتتفاقم لحالات مرضية أو سلوكيات عدائية أو إجرامية، وهو أحد أسباب ارتكاب الجرائم، وغالبا ما ينظر إليه المجتمع على أنه عضو غير مرغوب فيه وغير مقبول داخل الإطار الذي يعيش فيه، بسبب المرض، ما يؤدي به إلى الانطواء على نفسه وقطع العلاقات الاجتماعية، وعدم التواصل مع من حوله بالشكل الطبيعي». ويتأسف للنظرة التي تحاصر المريض النفسي، باعتباره شخصا سلبيا لا يرجى منه أي شيء: «يطلق عليه غالبا في حالة أي تصرف إيذائي بأنه مختل عقليا، فمن الطبيعي لأي شخص إذا حصل له عدم تقبل من البيئة التي يعيش فيها، اللجوء للانطواء على نفسه، أو الخروج من المكان الذي لا يجد فيه نفسه، ومعروف أن رفض وقبول المجتمع لشخص، له دلالات نفسية داخل هذا الشخص، ما ينعكس على رضاه عن نفسه اجتماعيا أو العكس» .