«يارب سترك» ..دعاء لا ينفك ساكنو منطقة البلد بوسط جدة من ترديده لبث الاطمئنان في نفوسهم وطرد الكوابيس التي تراودهم في صحوهم ومنامهم بانهيار منازلهم القديمة ويصبحوا تحت الأنقاض، خاصة بعد انهيار عمارتين في المنطقة نفسها. لكن تبقى الإشكالية في أن هؤلاء السكان ومع علمهم بخطورة مساكنهم لا يزالون متمسكين بالإقامة فيها، خاصة من يعولون أسرا يوجد بها أطفال وأرامل ومسنون، لأنهم يدركون حجم المعاناة التي سيتكبدونها بعد خروجهم من هذه المساكن لإيجاد مسكن آخر يلائم ظروفهم المادية. جدة. عثمان هادي سلسلة من العمائر القديمة المبنية في الغالب من الحجارة والأخشاب، تقف متراصة داخل المنطقة القديمة بعضها يحاول المقاومة، والبعض الآخر يوشك أن تنهار دعائمه، وهذا هو الخطر فتلك المباني لا تفصلها عن بعضها إلا أزقة صغيرة بالكاد تتسع لشخص وربما لشخصين في أحسن الأحوال، فلو انهار مبنى فإنه سينكفئ على جاره، وهكذا يشبه المشهد قطع الدومينو المتراصة التي تسقط في سلسلة من المتواليات. خيارات صعبة عبدالقوي حاشد «يمني» الذي سكن المنطقة قبل 20 عاما يشير إلى أنهم يعيشون الخطر كل يوم: «أقيم في شقة من غرفتين مع زوجتى وأبنائي ووالدتي وإخوتي الصغار نخشى بالفعل من سقوط العمارة، خاصة أن العمارة المجاورة لنا أخلت البلدية سكانها قبل عام لخطورتها». ورغم علمه التام بخطورة المسكن إلا أن حاشد غارق حتى أذنيه في العديد من الخيارات الصعبة، لذلك فهو يعيش على بصيص أمل في أن يصمد منزلهم أعواما أخرى.. فتبعات الانتقال إلى منزل آخر قاسية بالنسبة إلى من هم في مثل رقة حالة، فمنزله الحالي يوفر له الكثير من الامتيازات، فهو قريب من مكان عمله، حيث يذهب ويعود راجلا، وكذلك قريب من مدارس أبنائه وإخوته، كما أن أجرة المسكن بالإمكان تدبيرها. انتحار جماعي أما أدهم باربود «يدير محل خضراوات بحي الصحيفة» فيبدو أن حالة القلق التي كانت تنتابه جعلته ينقل أسرته من المنطقة قبل فترة، في حين بقي هو في مكان عمله ريثما ينتهي عقده مع صاحب المحل بعد شهر تقريبا: «من يقيم في هذه المنطقة أشبه بمن يبحث عن وسيلة للانتحار، فلا يوجد شخص عاقل يسمع عن الكوارث التي حدثت لبعض الأسر جراء انهيار منازلهم ويأتي بأسرته ليقيم هنا». لكنه أشار إلى أن خيار الانتقال إلى مكان آخر قد لا يكون متاحا للكثيرين: «الحمدلله حالتي المادية ميسورة واستطعت الانتقال من هنا، ولكن هناك أسر عديدة لا تستطيع ذلك حتى لو علموا أن مساكنهم ستنهار عليهم قريبا، فظروفهم المادية أصعب حالا من بعض تلك العمائر الآيلة للسقوط». إلا أن باربود لفت إلى أن السكان يتحملون جزءا من المسؤولية بسبب أطنان الحديد التي يقومون بتركيبها فوق منازلهم خوفا من مياه الأمطار فأصبحوا بذلك «كالمستجير من الرمضاء بالنار». وأضاف صفي الرحمن« بنجالي» أن أزمة المياه تتحمل جانبا من المسؤولية؛ فالسكان يخزنون المياه في حاويات كبيرة داخل المنازل، ما يزيد الضغط على أساساتها المتهالكة أصلا، لكن أحيانا تجد نفسك مضطرا أمام قلة الحيلة: «أقيم مع مجموعة من العمال بحي العمارية في عمارة متهالكة استأجرها لنا صاحب العمل، وفشلت كل محاولاتنا في إقناعه بتغييرها، وقال لنا من أراد الانتقال إلى مكان آخر فليفعل لكنه على حسابه. وبالطبع أسقط في يدنا، فنحن لا نقدر على أي نفقات إضافية أيا كانت قليلة». أما أم أحمد الصومالية،60 عاما، فتعترف بأن مسكنها الذي تقيم فيه منذ 20 عاما خطر، لكنها لا تعلم إلى أين تذهب بأبنائها الثلاثة؟ خاصة أن وضعها المادي لا يسمح لها بأي خيار آخر غير البقاء. أرملة أخرى، 65 عاما، تقيم بجوار أم أحمد تعايش الخوف منذ أعوام ذكرت أنها سكنت هنا قبل 15 عاما هي وزوجها وبعد رحيله كابدت الحياة حتى تعبر حواجزها، مشيرة إلى أن ابنها الأكبر تزوج وانتقل إلى منزل لكنه لا يزال يزورها من وقت لآخر ويمنحها بعض المال، في حين يقبع ابنها الأصغر في السجن وهذا ما يجعلها تبقى في هذا المنزل أيا كانت مخاطره. الترميم مكلف عمر باعجاجة، صاحب مكتب عقار ومالك لعدة عمائر سكنية بحي الصحيفة، قال إن هناك مباني تهدد أملاكه بسبب قدمها واحتمال سقوطها في أي لحظة: «تقدمت بشكوى إلى بلدية البلد التي تفقدت المباني القربية من أملاكي ووقفت عليها لكنها لم تفعل أكثر من ذلك.. فلا أدري لم الانتظار؟ هل ينتظرون سقوط تلك العمائر المتهالكة كي تتدخل في حمل الأشلاء والجثث». وأضاف أن أغلب الساكنين لديه خرجوا من شققهم بحجة وجود عمائر آيلة للسقوط قريبة منهم. وذكر أن أحدهم اشترى عمارة في حي العمارية مكونة من ثلاثة أدوار وأراد أن يرممها، فأتى بعماله وبدأ في أعمال الحفر من أساس العمارة التي انهارت فجأة على العمارة المجاورة، ما أدى إلى إصابات بالغة بين سكانها واحتجازهم داخلها حتى تم إنقاذهم. من جانب آخر، أكد المهندس سعيد سالم الغامدي، أن أحد أسباب انهيار العمائر هو انتهاء عمرها الافتراضي، وعدم وجود أعمال صيانة، فالمفترض أن تكون هناك صيانة دورية كل عشرة أعوام. وأوضح أن معظم مباني منطقة البلد مبنية من «الحجر المنقبي» وهو يستخرج من البحر إضافة إلى الأخشاب وهي مادة متآكلة ولا تصمد طويلا. ولفت إلى ضرورة أن تشكل لجنة من المهندسين للوقوف على تلك المباني وتحديد ما يجب هدمه أو ترميمه، مع العلم أن الترميم مكلف جدا وقد لا يجدي في العمائر القديمة جدا