بين آلام الماضي ومآسي الحاضر والخوف من المستقبل اتخذت الأرملة «سرى. ع. ع» ذات ال85 عاما من أحد جوانب منزلها مكانا دائما تقضي فيه جل أوقاتها دون مؤنس يؤنس وحدتها، عدا دموعها التي بسببها فقدت بصرها للحزن الكظيم الذي لا تزال تعيشه، وهو ما فشلت معه مساعي المحسنين الذين وصل إلى مسامعهم قصتها لإخراجها من حزنها وقشع الغيمة السوداء التي عصفت بها وكستها السواد، ليكتفوا بإطلاق لقب «أم الأحزان» عليها وقلوبهم تعتصر حسرة على ما آل إليه حالها. بشارع الفيصلية في حي المعابدة؛ حيث تعيش «أم الأحزان» يمكن لأي أحد من أهالي الحي أن يدل السائل عنها ببساطة مع نظرات استغراب وسؤال متكرر على ما يبدو: هل وصلتكم قصتها؟ وما ذلك إلا لأن صيتها قد ذاع وأصبحت أشهر حتى من نجوم الكرة والفن، رافقنا الدليل وهو يؤكد أن شهرتها تضاهي شهرة المشاهير عالميا، وحين وصلنا منزلها بدت تلك المرأة المسنة وهي تجلس بالقرب من فجوة عميقة ضربت بأحد جدران منزلها المتهالك تحت أشعة الشمس الحارقة، وبيد تضم غيارات رجالية وملابس إلى صدرها بشدة، وباليد الأخرى ترفعها للسماء عاليا تناجيه، عز وجل، وتارة تمسح دموعها الغزيرة التي تدفقت في وجهها المملوء بالتجاعيد. مضايقات للطرد دنونا منها، وبعد تعريفنا لها بأنفسنا ألحت في تعريفنا لها عما تعنيه الصحافة، حتى أنقذنا مرافقنا بفطنته ليرد على سؤالها الملح بأنه الراديو، لتحرك رأسها بعد ذلك في صورة أوحت إلينا عن فهمها ورضاها لتخوض بعد ذلك معنا في حروب إنسانية شهدت معها هطول الدموع بغزارة، وهي تقول: «لو كنت أما لك هل كنت ستلتزم الصمت عما أعيشه؟ فأنا لي أبناء لكنهم لاهون في حياتهم عدا واحدا منهم كان يناصرني، وفجأة تخلى عني بسبب أن خصمي الذي اقتلعت الرحمة من جوارحه يصر على استحواذ وتملك منزلي». وتابعت بأسى تحكي بداية فصول معاناتها حينما زارها أحد الأشخاص وأبلغها عن رغبته في شراء منزلها الذي تركه لها زوجها بعد وفاتها بغية أن يستفيد من موقعه الاستراتيجي في مشروع استثماري فأفهمته بأنها لا تنوي بيعه خاصة أن كل شبر منه يحكي أجمل ذكريات حياتها مع شريكها الراحل. ثم صمتت برهة من الزمن حتى ظننا أنها توقفت عن الحديث معنا لولا تلك الأنفاس لتجهش بالبكاء بعد أن خارت قواها، وهي تردد: «دعوني أعيش بمنزلي ما كتب لي الله من العمر حفاظا على شيخوختي وكبر سني بدلا من أن أجد نفسي مكرهة بالشارع ومستعدة بكتاب خطي عن تنازلي لمنزلي لذلك «التاجر» الذي أرهقني وأثقل كاهلي حتى بلغ به الأمر أن حضر منذ أيام ومعه شخصان وأحدثوا أضرارا بمنزلي، وأيضا تحريضه جيراني الآسيويين لمضايقتي من أجل تطفيشي». دون دليل وتصف تلك المضايقات: «تتمثل في تسبب أبناء تلك الجالية وعددهم نحو التسعة لإزعاجات طوال الليل خطفت معها نومي، إضافة إلى تعمدهم إحداث طرقات عنيفة بباب منزلي، ومن ثم الاختفاء سريعا حتى لا يلحظهم أي شخص، ومع وجود الفجوات التي لحقت بجدران منزلي فتح أمامهم الدخول من خلالها لسرقة ما يطيب لهم، وهو ما يفرض علي قضاء أوقات عصيبة أنتظر من يطل علي لتقديم ما يسد جوعي وعطشي»، وتتابع: «سبقت واشتكيتهم لكني لا أملك الدليل الحسي الذي طلبه مني قسم شرطة الحي، وقد راجعت نهاية الأسبوع الماضي مكتب الحقوق المدنية بمكة المكرمة من أجل «إرضاء غرور» خصمي المعتدي، لكن إدارة الحقوق رفضت قبول طلبي بالتنازل عن منزلي مقابل أن يسمح لي بقضاء ما تبقى لي من العمر لعدم الاختصاص بذلك، وأشاروا علي بأنه وحسب وجود خصومة سابقة حتى اللحظة على المنزل فإن علي مراجعة جهات الاختصاص ومتابعة ذلك ورفع أية مستجدات طرأت لديّ». لا تنازل أبدا هذا الوضع أوصلها إلى قناعة، أن «صوتها لن يصل وإن وصل لن يسمع له»، وأكدت أنها لن تتنازل أبدا عن حقها بمغادرة المنزل حتى وإن تطورت المساوئ التي تكتنفها من خصومها الطامعين بمنزلها، مشيرة إلى أنها ستقتص منهم حقها بين يدي العادل الذي لا يظلم عنده أحد وهو من لا تخفى عنه خافية. وانتهت إلى طلب مغادرتها فهي لا تريد أن يهدر أي وقت وهي تواصل قضاء وحدتها الحزينة، ملوّحة لنا بملابس قالت إنها تخص بزوجها المتوفى، ووصفتها بأنها من تهوّن عليها مصائبها بتذكره على الدوام، وقالت إنها جسد بلا روح منذ أن غيبه الموت عنها، لنغادرها وهي تردد: «عند الله ما يضيع حق أحد، وبلغوهم بيتي بياخذوه مني بس أعيش ما تبقى من العمر ولعلها تكون أياما» .