لم يتردد شاب سعودي في العقد الثالث من العمر، في الشروع في حسم مصير حياته، فور أن اعتراه الألم من زوجة رفضت رهن بقية حياتها برفقته، وطالبت بحضانة ابنهما، فصعد إلى أعلى بناية مقابل المحكمة العامة بالخبر، معلنا الجولة الأخيرة من الحياة، لكن: «أنت تريد وأنا أريد، والله يفعل ما يريد». ولم تكن محاولة انتحار ابن الخبر، الوحيدة في مسلسل الراغبين في الانتحار، وإن كانت الأحدث، إذ سبقتها محاولة ابن تبوك، الشاب الذي شارف على ال30 عاما، واعتراه ألم الحاجة المادية، بعدما وقف عاجزا عن سداد قيمة غرامات مالية متراكمة على حافلته الخاصة، فصعد مع الصباح الباكر إلى سطح بناية الإدارة العامة للنقل بتبوك المكونة من أربعة طوابق، معلنا رغبته في إنهاء حياته، والسقوط أرضا، مثلما سقط في فخ الدين، وسقط في فخ عدم المقدرة على التوصل لوظيفة بديلة تؤمن له حياته الخاصة. لكن: «هو يريد والله يفعل ما يريد». سم لبنت القرية لكن نموذج ابني الخبروتبوك، اللذين يمثلان الراغبين في الانتحار، ممن يلجؤون لهذا النوع لحسم مصير قضاياهم، سواء عن عمد أو عفوية أو ضحالة فكر، لم تكن مقيدة بجنس ذكوري فقد عقله على قارعة المشكلات اليومية، لكنها امتدت لقائمة الجنس الناعم، المعروف بفرط حساسيته للقضايا خاصة الأسرية. ولعل تفاصيل مأساة فتاة القرية النائية في منطقة حائل الجنوبية، يكشف مدى الجدية في تنفيذ حكم النهاية، خاصة للفتيات، إذ اختلط الحابل بالنابل في عقلية الفتاة، وراحت الأوهام تضخم لها معاناتها مع أهلها الذين لم تجد منهم يوما ما معاملة حسنة، بل حسب اعتقادها كانت المعاملة بهائمية إلى الدرجة التي لا تطاق، فراحت تحسم مصيرها بتعاطي مادة سامة، ثقبت جوفها، وأتلفت عقلها، لكن: «هي تريد، والله يفعل ما يريد». بر النهاية وإذا كان الانتحار أو محاولاته أو التلويح به، لم يكن حتى وقت قريب دارجا في الأفق، إلا أنه انتشر في الوقت الحاضر بصورة جعلته خطرا محدقا، في ظل غياب التوعيه والبحوث التي قد تعالج المشكلات والضغوط ما يفوت الفرصة على شيطان الهلاك من قيادة الشاب أو الفتاة لبر النهاية. لكن هل محاولات الانتحار هروب من الأزمات، أم أن الأمر لم يرتق للظاهرة، ومازالت بمصطلح الجدية في التعامل مع غياب العقل البشري؟ نايف السمحان المعلم في إحدى مدارس منطقة حائل يصر على أن المحاولات ليست هروبا بشكل التلاعب، لكنها سقوط في بئر وساوس الشيطان: «لا أعتقد أن محاولات ابن الخبر أو حتى شاب تبوك، كانت بغرض تسليط الضوء على مطالبهما، وإلا فهناك الكثير من الشباب لديهم العديد من المطالب، ومع ذلك حكموا عقولهم، واتجهوا للقنوات المقبولة والمنطقية، ولم يغيبوا تفكيرهم مثل من حاولوا الانتحار لأن هذه الفكرة لها مبرراتها النفسية، وكما يقولون ليست محاولة باللعب بالنار، لكنها نتاج صراع نفسي رهيب، ينتهي بغياب العقل، وإذا لم تكن هناك سرعة في معالجة تلك الحالات، بتدخل الجهات الأمنية والمختصة، وإسعاف فتاة حائل، لكنا شاهدين على مأساة السقوط من أعلى، كدلالة على أن الأمر جدي للغاية، وليست عصا للتلاعب بالمطالب». الهروب من المسن وتعيش سميرة مأساة محاولة انتحار صديقتها، التي حاولت الإضراب عن الحياة، بعدما وجدت نفسها ضحية المعاملة السيئة من أشقائها، ورغبتهم في تزويجها بمسن يفوق عمر والدها، والذين وجدوا فرصتهم في اختبار كل صنوف التعذيب: «عذبوها فور وفاة والديها، وتفننوا في الأمر إلى الدرجة التي غيبوا فيها عقلها، فاستسلمت لفكرة واحدة اسمها الهروب إلى العالم الآخر، بعيدا عن عذاب ذوي القربى، خاصة بعدما تفاقم الأمر وكانت كمن استجار بالرمضاء من النار، إذ لجأت لزوجات إخوتها، لعلهن يفهمنها كبنات جلدتها، لكنها فشلت». وتدافع عائشة الدغيري عن بنات جلدتها، ممن يرفضن الاضطهاد الأسري، لكنها لا تبرر الانتحار كوسيلة لهذا الرفض: «الانتحار آخر الحلول، وإن كنت لا أراه حلا، لكنني أعرف أن الكثير من الفتيات يعشن حالات سيئة جدا من اضطهاد الأهل لهن، وخاصة من غير المتعلمين، فتلجأ الفتاة للانتحار للتخلص من شبح الحياة البائسة». غطاء وستر وتشكك سامية الشمري في بعض حالات الانتحار التي تقع: «بعض الحالات تكون غطاء وسترا لجرائم أفظع، خاصة بالنسبة إلى الفتيات، وغالبا تكون جريمة شرف، فيبرر ذوو الفتاة حالة قتل فتاتهم ضمن سيناريو يظهر للمجتمع على أنها حالة انتحار، ومثلا قد يحبس الأهل فتاتهم داخل غرفة في البيت ويشعلون فيها النيران لتموت حرقا وكأن الحادث قضاء وقدر، أو قد يدفع أحدهم ابنته من على سطح البيت ليدق عنقها وتموت، وهناك حالات اكتشف فيما بعد أنها كانت جريمة قتل مدبرة على خلفيات أسرية». لا تلاعب ويرفض خالد صالح الشمري الموظف في مطار القصيم التشكيك في ماهية محاولات الانتحار، لأن السلطات الأمنية في المجتمع قادرة على إظهار الغش أو التلاعب في مثل حالات القتل، والشواهد عديدة، ولا يمكن تمرير الانتحار بدفن المتوفى، لكن هناك إجراءات للوثوق من عدم وجود دافع جنائي وراء الجريمة، ليكشف الستار عما إذا كانت المحاولة حقيقية أو وراءها هدف خفي. لكنه يربط محاولات الانتحار بأحداث يعيشها المراهق، تدرجا من الأحداث البسيطة إلى الأشد خطورة: «معظمها يتعلق بنظام العلاقات القائمة بين المراهق وأهله من جهة، وعلاقاته بالآخرين من جهة ثانية، ويمكن تحديد هذه العلاقات وفق أنماط معينة منها: المنع المفروض على المراهق في البقاء خارج المنزل لوقت متأخر، رفض الأهل تحقيق بعض من متطلباته، قصور الأهل المادي لشراء ما يرغب فيه، المشاحنات مع الرفاق، الفشل الدراسي، علاقة فاشلة مع الجنس الآخر، إدخاله في مدرسة داخلية، انهيار وضع الأسرة الاجتماعي أو الاقتصادي، فقدان شخص عزيز». جانب رمزي ويحلل الباحث الاجتماعي عارف السلمان الانتحار وفق تعريف المصطلح النفسي بأنه: «تصرف متعمد من قبل شخص ما لإنهاء حياته، وهو قتل النفس تخلصا من الحياة». لكن السلمان يذهب بعيدا عن قالب الهروب من الأزمات، واستغلال محاولات الانتحار لإجبار الآخرين على الانصياع لرغباتهم، مبينا أن السؤال الذي يفترض التطرق إليه هو: هل الانتحار يعكس شجاعة الشخص المنتحر أم جبنه، وانعكاس فشله وعدم الحاجة إلى استمرار حياته؟. ويربط الجانب النفسي مع أي محاولة انتحار: «بعض الشعوب لديها رمزية خالصة للانتحار كما هو عند اليابانيين، أما شريعتنا السمحة فتحرم قتل النفس بأي حال من الأحوال، لأن الحياة ليست ملكا لصاحبها، بل هبة من الخالق، وبالتالي لا يجوز لأحد غير الله التحكم فيها». دراسات متواضعة وينتقد الدراسات التي تقصت الحقائق في أسباب ودوافع حالات الانتحار سواء الفاشلة أو التي تمت: «أغلبها متواضعة، وبات المجتمع في حاجة إلى وجود جهات معنية تعنى بمتابعة الحالات وإيجاد مسح دقيق للحالة المعيشية التي يعيشها بعض محاولي الانتحار، وخاصة الفتيات». ويبين أنه حسب آخر دراسة فإن: «نحو 35 % من حالات الانتحار ترجع إلى أمراض نفسية وعقلية كالاكتئاب والفصام والإدمان، 65 % يرجع إلى عوامل متعددة مثل التربية وثقافة المجتمع والمشكلات الأسرية أو العاطفية والفشل الدراسي والآلام والأمراض الجسمية أو تجنب العار أو الإيمان بفكرة أو مبدأ ضال كالقيام بالعمليات الانتحارية». وذكر أن بعض الدراسات الغربية ربطت أسباب الانتحار بالبطالة والعوز والفقر التي تجتاح المنتحر، إضافة إلى الظروف الاجتماعية الضاغطة، وأحيانا تلعب الحالة العاطفية دورا في زيادة نسبة حالات الانتحار بين الشباب والشابات في عمر العشرينات.